أغسطس 28، 2014

حملة التشويه الزائفة.. من أردوغان لكولن

عبد الله بوزكورت

بعد أن اعتبر نفسه مدَّعيًا عامًّا وقاضيًا وجلاَّدًا في الوقت ذاته، أقدم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان -وهو الوجه الأكثر بروزًا على ساحة الإسلام السياسي في تركيا- على إدانة الباحث الإسلامي فتح الله كولن، الذي يحظى باحترامٍ كبير، وذلك بما سمَّاه “محاولة انقلابٍ مدني”، تلك التهمة الملفَّقة التي اختلقها أردوغان للحَطِّ من قدر فضيحة الفساد الكبرى التي تجرِّمه وتجرِّم رفاقه وأفراد عائلته. وقد أعلن رئيس الوزراء المحاصَر بشكلٍ علنيٍّ أن الأستاذ كولن (الذي ينتقد فساد حكومة أردوغان وغياب الشفافية والمساءلة) هو عدوُّه الأول، رغم عدم تقديمه دليلاً واحدًا يُثبِت تورُّط هذا الأخير في أنشطةٍ سِرِّيةٍ ضِدَّ الحكومة التركية، بما في ذلك تدبير فضيحة الفساد.

ثم إنه بعد فشله في عرض أي دليلٍ يثبت الإدانة، ناهيك بأن يكون دليلاً دامغًا على تورُّط الأستاذ كولن، فإن السياسي الإسلامي قد شنَّ حملة تشويهٍ تهدف إلى تشويه سمعة الباحث في الشؤون الإسلامية البالغ من العمر 76 عامًا والذي طالما دعا إلى أهمية العلم والتعلُّم والاعتدال والأنشطة التوعوية والحوار بين مختلف الأديان والثقافات طوال مدة حياته. وكانت آلة الدعاية التي يمتلكها أردوغان انشغلت بنشر الأكاذيب والتشنيعات والإهانات منذ انكشاف فضيحة الفساد الحكومي في 17 من ديسمبر 2013، إذ جعل أردوغان من فتح الله كولن كبش فداءٍ وشرع ينهمك في خطاب الكراهية بسبب حنقه على تمزُّق إرثه إثر فضيحة الفساد، حتى إنه سعى سعيًا محمومًا إلى خلق تصوُّرٍ يقول بوجود قضيةٍ قانونيةٍ مُحكَمةٍ ضدّ الأستاذ كولن، بينما -في حقيقة الأمر- ليس ضدّ الأستاذ كولن أي شيءٍ على الإطلاق. ثم إنه في غمرة جموحه قد طرح -حتى- فكرة مطالبة الولايات المتحدة بتسليم الرجل الذي لا يخضع لأي تحقيقٍ قضائي، فضلاً عن عدم مثوله للمحاكمة.

وللأسف الشديد، يُعَدّ الأستاذ فتح الله كولن (الذي لا يتحمل أي مسؤوليةٍ سياسيةٍ أو جنائيةٍ عن أي نشاطٍ غير قانونيّ) ضحيةً لعملية مطاردةٍ من أردوغان الذي جعل هذا الباحث الإسلامي هدفًا لسهامه، وهو ما وصفته أحزاب المعارضة باعتباره جزءًا من الحملة الحكومية المتعمَّدة لتحويل مجرى النقاش العامِّ بعيدًا عن فضيحة الفساد. ولعلّ أردوغان يهدف من وراء إعادة طَرْق هذه المزاعم القديمة بشأن الأستاذ كولن، والتي ثبت كذبها خلال محاكمةٍ قانونيةٍ، إلى حَبْك دعوى قضائيةٍ أخرى لا أساس لها ضدّ الرجل عن طريق الحكايات الملفَّقة والتقارير الزائفة التي تبثُّها وسائل الإعلام الموالية له. وبما أن أردوغان هو رئيس الحكومة الذي يتمتع بسلطاتٍ واسعة، فيجب كذلك تفسير تصريحاته على أنها وسيلةٌ تهدف إلى الضغط على القضاء وإلى التأثير سلبًا في قدرة الأستاذ كولن على تلقِّي محاكمةٍ عادلةٍ إذا ما أثيرت مثل هذه القضية مستقبلاً.

قبل أسبوعٍ مضى كان هاشم كيليج رئيس المحكمة الدستورية (أعلى المحاكم في البلاد) وجَّه انتقاداتٍ إلى أردوغان لاختلاقه مزاعم من قَبِيل وجود دولةٍ أو جماعةٍ موازيةٍ داخل منظومة القضاء، في إشارةٍ ضمنيَّةٍ إلى حركة “الخدمة” المستوحاة من تعاليم الأستاذ كولن، قائلاً إنه يتعيَّن على الحكومة أن تُقدِّم أدلَّةً تدعم هذه المزاعم وأن تُجري تحقيقاتٍ متعمقة، وإلاّ فعلى أردوغان -كما ألمح كيليج- أن يغلق فمه، لأن من شأن اللغة الحادَّة وخطاب الكراهية اللذين يتبنَّاهما رئيس الوزراء أن يؤثرا سلبًا على أعضاء السلطة القضائية من حيث ما قد يؤدِّيان إليه من استقطابٍ وتوتُّرٍ وانقسام. كما حذَّر من أن التوافُق المجتمعي قد يصبح على المحكّ إذا ما واصلت السلطة التنفيذية هجومها على القضاء التركي.

هذا، ويعي أردوغان أنه لا يمتلك أساسًا يمكِّنه من إقامة قضيةً قانونيةً ضدّ الأستاذ كولن، إذ سيتوجَّب على المحكمة أن تصل إلى تقييمٍ موضوعيٍّ ومحايدٍ ومستقلٍّ للحقائق، بعد التحقُّق من مدى مصداقية الأدلَّة بشكلٍ مهنيٍّ وفقًا لمبادئ التفسير القانوني المعترَف بها عمومًا. وبما أن المحاكم المهنية التي تتوافق مع أحكام القضاء الصادرة عن المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان -وهي محكمةٌ قراراتها مُلزِمةٌ لتركيا- لن تقبل القيام بالأعمال غير النظيفة التي يقوم بها أردوغان ضدّ الأستاذ كولن، فيجب على رئيس الوزراء أن يعثر على محكمةٍ يُمكنها تجاهُل موادِّ الدستور بشكلٍ صارخٍ، كما يُمكنها تجاهل موادِّ الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان، ومن ثمَّ انتهاك ما تكفله التشريعات القانونية من أشكال الحماية، سواءً في ما يتعلق بصحة الإجراءات أو بسلامة المضمون.

وبطبيعة الحال، فنسبةٌ معقولةٌ من القضاة والمدَّعين العموميين مستعدون للتعاون، لا سيما في المحاكم الصغرى، حيث يرغب أعضاء الهيئات القضائية صغار السن وقليلو الخبرة في تسديد ما يدينون به لحكومة أردوغان، من خلال مباشرة دعاوى قضائيةٍ لا أساس لها. وقد كشف تسجيلٌ صوتيٌّ سُرِّب في أثناء الانتخابات عن محادثةٍ هاتفيةٍ يُخبِر فيها وزيرُ العدل آنذاك سعد الله إرجين رئيسَ الوزراء أردوغان كيف تَمَكَّنَت الحكومة من اختراق القضاء بنحو 2000 عنصر من عناصر الهواة المُوَالِين. لذا فإن مسألة تدبير دعوى قضائيةٍ تافهةٍ ضد الأستاذ كولن لن تكون أمرًا صعبًا، فستتحول الإجراءات القضائية إلى مجرَّد وسيلة لتنفيذ رغبات أردوغان بإبعاد المعارضين لحكومته، بمن فيهم فتح الله كولن. بعبارةٍ أخرى، فإن رئيس الوزراء إنما يطمح إلى إساءة استغلال الإجراءات الجنائية، وذلك بغرض معاقبة المعارضين والمخالفين في الرأي لأسلوب حُكمِه البلاد.

ويبدو أن أردوغان الذي وجد نفسه مُحاصَرًا في ثنايا فضيحة فسادٍ ضخمةٍ لم يعُد قادرًا على التصرف كرجل دولة، بل كسياسيٍّ يشعر بالمرارة، لذا لا يمانع في تسييس القضاء كما يبدو. ثم إن تصريحاته العامَّة التي تصبُّ في صالح نتيجةٍ مَفادها إدانة الأستاذ كولن بالفعل، قبل حتى بداية أي تحقيقاتٍ أو محاكمة، إنما تعني مصادرته على مبدأ افتراض براءة المتهَم إلى حين صدور إدانته. وخلال مقابلةٍ أُجرِيَت معه مؤخَّرًا، وبَّخ أردوغان أحد المراسلين لإطلاقه اسم “جماعة كولن” على حركة “الخدمة”، وأبَى عليه إلا أن يصف الحركة بأنها “عصابة”. وفي مناسباتٍ أخرى كان أردوغان قد وصفها بـ”المنظمة الإرهابية”، حتى إن بعض وزرائه ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حين اقترحوا أنه يتعيَّن على الأستاذ كولن إثبات براءته أمام القضاء. أقول إنه ليست كل هذه التصريحات -في النهاية- سوى تلميحاتٍ واضحةٍ إلى المدَّعين العموميين والقضاة عن النتيجة المرجوَّة والمتوقَّعة من أي إجراءات قضائية يُمكِن أن تُتَّخَذ حيالَ الأستاذ كولن.

إن حكومة أردوغان إنما تبحث عن محكمةٍ لا تكترث باستقلال القضاء وحياديته، تتشكل هيئتها من مجموعةٍ من الأذناب السياسيين صغيري السِّنِّ معدومي الخبرة. ولعل قضية التنصُّت غير القانوني التي وقعت في مدينة أضنة ودُبِّرَت -في ما يبدو- مكيدةً سياسيةً، والتي أصدر قاضي تحقيقها أوامره باعتقال ستة ضباط شرطة خلال الشهر الماضي، لعلها تُمِدُّنا ببعض الإشارات عن الكيفية التي تعتزم بها حكومة أردوغان ملاحقة الأستاذ كولن، إذ يُعرَف القاضي المسؤول عن مباشرة هذه القضية (إبراهيم صغير) بدعمه الشديدِ رئيسَ الوزراء، حتى إنه عَبَّر من خلال مشاركاته على مواقع التواصل الاجتماعي عن تقارُبه الوثيق مع أردوغان، بكتابة تعليقاتٍ تلخِّص هذا التقارب من قَبِيل: “إن أولئك الذين لا يحبونك ]يا أردوغان[ لا يحبون كذلك هذا الشعب. وذلك لأن إسرائيل الصهيونية وأعوانها لا يحبونك". وفي مشاركةٍ أخرى احتفل القاضي بانتصار حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية قائلاً: "نعم، أيها الأصدقاء! إن الفائز الحقيقي إنما هو الشعب التركي العظيم، والخاسر ليس سوى إسرائيل والمحافظين الجدد وأعوانهما في الداخل".

كما أعرب القاضي صغير من خلال مشاركاته على موقع "فيسبوك" عن كراهيته لكلٍّ من المفكِّر الإسلامي فتح الله كولن وحركة "الخدمة". وقد كتب في الأول من أبريل الماضي يقول: "ذات يوم جاءني شابٌّ ليقدِّم التماسًا، فسألته عن موضوع الالتماس، ليخبرني بأنه يريد تغيير اسمه الذي تحققتُ فوجدته "فتح الله"، ولما سألته لِمَ يريد ذلك، أجابني بأنه لا يريد أن يحمل الاسم نفسه الذي يحمله هذا الخائن ]في إشارة إلى فتح الله كولن[. وقد شعرت بالحزن في بداية الأمر، غير إننى عدتُ فأُعجِبْت بحساسية الرجل". وكانت محكمة الاستناف علَّقَت أوامر الاعتقال الصادرة بحق ضباط الشرطة وسمحت لهم بالرحيل لعدم كفاية الأدلَّة، وهي الخطوة التي أثارت غضب أردوغان الذي ما لبث أن انتقد القاضي الذي أمر بإطلاق سراح الضباط انتظارًا للمحاكمة، واعتبره فردًا من أفراد عصابة القضاة التابعين للأستاذ كولن.

وليس الأستاذ كولن هو الشخص الوحيد الذي يستهدفه أردوغان، فقد دُعِيَ كمال كيليجدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري، وهو أكبر أحزاب المعارضة، للمثول أمام المدَّعي العامّ محمد ديمير، للإدلاء بشهادته في التحقيقات التي فُتحت إثر شكوى تَقَدَّم بها نجل رئيس الوزراء بلال أردوغان. غير أن هذا الاستدعاء قد أُلغِيَ في وقتٍ لاحق، لتمتُّع زعيم حزب الشعب الجمهوري بالحصانة البرلمانية وعدم إمكانية مثوله لتقديم شهادته دون موافقة البرلمان. وكان المتحدث باسم الحزب هالوك كوش اعتبر هذه الخطوة من المدَّعي العام مؤامرةً ضدَّ أكبر أحزاب المعارضة، متهمًا إياه بالتحرُّك بناءً على التعليمات التي تَرِدُ إليه من جهةٍ ما، وتساءل خلال مؤتمرٍ صحفيٍّ عُقد داخل البرلمان: "مَن ذا الذي أصدر التعليمات التي جَرَت بموجبها هذه المؤامرة؟ (...) ومن أين تَأَتَّت الشجاعة لهذا الرجل (المدَّعي العامّ)؟"، مُلمحًا بذلك إلى وجود صلةٍ بينه وبين الحكومة.

ومن المعروف عن المدَّعي العام محمد ديمير إصداره تصريحاتٍ داعمةٍ للحكومة في وسائل الإعلام، حتى إنه في وقتٍ سابقٍ اعتبر فضيحتَي الفساد اللتين كُشف عنهما النقاب في 17 من ديسمبر و25 من ديسمبر "محاولة انقلاب" على حزب العدالة والتنمية الحاكم، مُعلِّقًا: "بوسع الحكومة أن تقرر ما إذا كانت تدور محاولة انقلابٍ حاليًّا أم لا، إذ تدلّ جميع الأحداث التي بدأت في أعقاب قضية 17 من ديسمبر بصورةٍ واضحةٍ على ما يحدق بحكومة حزب العدالة والتنمية من أخطار".

وتمارس الحكومة كذلك نوعًا من الضغط النفسي على الأستاذ فتح الله كولن، إذ عملت على تدبير تسريباتٍ غير قانونيةٍ لإحدى المحادثات الهاتفية التي يُزعَم أنها له ولرفاقه، والتي يُفترض أن الجهة التي سجَّلَتها هي جهاز الاستخبارات الوطنية. وبمثل هذه الطريقة، تتصدر صوره كل يوم صفحات الجرائد الموالية لأردوغان، مع إضافة بعض العناوين الرئيسية الملفَّقة. كما تَعَرَّض رجال الأعمال الذين يُظهرون شيئًا من التعاطف مع حركة “الخدمة” للتهديد بفحص الحسابات وإلغاء التراخيص وصعوبة استخراج التصاريح، ليجيء كل ذلك جزءًا من حملة الترهيب التي أعدَّتها الحكومة بشكلٍ جيدٍ والتي خطَّط لها وأدارها كادرٌ صغيرٌ من هُواة السياسة يُقال إنه يتصرف بناءً على أوامر صريحةٍ من أردوغان.

ويعي رئيس الوزراء حقيقة أن الاتهامات التي يُقدِّمها في حق الأستاذ كولن إنما هي اتهاماتٌ يتعذَّر الدفاع عنها أمام القضاء العالي متمثلاً في المحكمة الدستورية وكذلك على الساحة الدولية، بما في ذلك المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان التي تقع بمدينة ستراسبورغ الفرنسية. كما يدرك أن الأستاذ كولن محميٌّ بموجب القاعدة القانونية التي تقول إنه “لا يجوز محاكمة شخصٍ عن نفس الجُرم مرتين”، والتي تحظر على المدَّعين العموميين اتخاذ إجراءاتٍ قانونيةٍ بشأن تُهَمٍ سبق لفتح الله كولن تبرئته منها بالفعل، ما لم تظهر أدلةٌ جديدة، وقطعًا ليس كجزءٍ من حملةٍ تُحرِّكها الدوافع السياسية. كذلك فإن أردوغان ما لبث يُدلي بتصريحاتٍ مزعجةٍ منذ أُمِيطَ اللثام عن فضيحة الفساد، في محاولةٍ منه لا طائل من ورائها لبَثِّ اليأس في نفوس أعضاء حركة “الخدمة”، فهو يسعى فقط لكسب الوقت حتى حلول موعد الانتخابات الرئاسية والوطنية، في الوقت نفسه الذي يعمل فيه على تحويل انتباه الرأي العامّ عن فضائح الفساد.
Blogger Wordpress Gadgets