أغسطس 12، 2014

فتح الله كولن.. عندما تصنع القيم تنمية

مجدي سعي

خلال زيارة أخيرة لتركيا نهايات شهر يونيو 2009 أتيح لي أن أطلع عن كثب على بعض ملامح تجربة مؤسسات فتح الله كولن، والتي لاحظت فيها بشكل أساسي دور القيم التي تكتسب حرارتها من حرارة القلوب، وتكتسب إلزاميتها من التعاضد الاجتماعي لممارسيها في تحقيق مشاريع التنمية، ومن ثم أردت أن أقدم بعض تلك الملامح التي استجليتها علّها تكون نبراسا لأصحاب مشاريع التنمية والنهضة في الأمة.

دعونا نقول في البداية إن أي مشروع للتنمية أو النهضة لا بدّ له من ثلاثة مقومات أساسية:

1-المورد البشري: وهو الأساس في أي تغيير اجتماعي منشود، وهذا المكون البشري لا بدّ لتكوينه من ثلاثة مقومات على الأقل تتمثل في: طاقة روحية، وقيم أخلاقية ملزمة، وعلم مادي.

2-المورد المالي/المادي: إذ لا بدّ لموارد الأمة أو المجتمع أو الجماعة البشرية التي شحنت بتلك الطاقة الروحية واستصحبت تلك القيم الأخلاقية وتزودت بالعلم اللازم أن تتوافر لديها موارد مالية تعينها على تفريغ تلك الطاقة وممارسة تلك القيم والأخلاق وتفعيل ذلك العلم.

3-المورد الفكري: وأعني به أن يكون لدى ذلك المجتمع أو تلك الجماعة البشرية مشروع تنموي ونهضوي يتم التفكير فيه بعمق، وتوضع التدابير اللازمة لاستمراريته ما استمرت حياة البشر.

القيم والمقومات في تجربة كولن

الملامح التي استجليتها من تجربة كولن تسمح لي بأن أقول إنهم حرصوا على تحويل القيم التي يتكلم بها غيرهم كلاما مرسلا في الهواء إلى ممارسات عملية ألزموا بها أنفسهم دون إلزام من أحد، ووظفوها في خدمة مشروع التنمية والنهضة الذي يتبنونه، أما المقومات فقد تعاملوا معها على النحو التالي:

1-المورد البشري: وهو الأساس لديهم فاعلا ومفعولا، والذي يتم تكوينه بالأساس وفق بناء روحي وأخلاقي وعلمي متين من خلال أنشطة ومؤسسات البناء الروحي والأخلاقي في "الدرسْخانات" والمدارس أي من خلال المشروع ذاته الذي يقومون عليه.

2-المورد المالي: فهم يستخدمون في تحريكه الطاقة الروحية والأخلاقية محولة إلى تكليفات عملية تتمثل فيما يسمونه بـ"الهمّة" ويعنون بها الطاقة الروحية حينما تتحول إلى فعل التزامي محدد بمقدار يلزم به الإنسان نفسه أمام الناس، ومن ثم يتحول من خلال الضغط الاجتماعي إلى شبه إلزام، ويشارك في أداء تلك المهمة الصغيرُ والكبيرُ فيما يملك.

3-المشروع: وقد تمت فيه مراعاة أصول التدبير؛ فهو مشروع لا يختلف على خيريته أو نفعه للمجتمع بل وحتى للإنسانية اثنان، ومن ثم فهو ليس مشروعا ينافس أحدا أو ينازعه مكانة أو زعامة أو مصلحة أو منفعة دنيوية مما يخاف عليه الملوك والرؤساء والزعماء أو تتربص به الأجهزة، وهو مشروع مؤسسات إنتاج، وإعادة إنتاج الإنسان الصالح لأي مجتمع كان مسلما أم غير مسلم، من خلال مؤسسات التعليم والإعلام والحوار التي انتشرت في أنحاء تركيا والعالم تصنع سلاما اجتماعيا، وعولمة إنسانية جديدة مؤسسة على القيم والأخلاق.

وفي هذا المشروع وظفوا قيمة "الخدْمة" ويعنون بها الخدمة في إطار المشروع والتوظف في المشروعات التي يديرونها هنا وهناك، وهو التوظف الذي لا يصير معه الإنسان مجرد "موظَّف" يؤدي وظيفة دون روح، بل إنه يخدم الناس من خلالها بروحه وأخلاقه السمحة قبل أي شيء آخر، وفي إطار ذلك المشروع أيضا وظفوا معنى وقيمة أخرى وهي "الهجرة" بمعناها المعاصر؛ فهم يقدمون مشاريعهم تلك خدمة للإنسانية في أنحاء مختلفة من العالم، وهذا يتطلب من الإنسان أن يذهب إلى بلدان ربما لم يسمع عنها من قبل، مضحّيا براحته واستقراره في بلده؛ ليعيش في بيئة وثقافة تختلف عن ثقافته وبيئته؛ رغبة في خدمة الخلْق إرضاءً للحق.

قطوف دانية

مؤسّساتهم وأبناؤها في كل مكان يشار إليهم بالبنان علْما وخلُقا؛ هذا ما يجعل الناس -القاصي منهم والداني- يشهدون لهم، المسلم وغير المسلم، فلو كان الإسلام والإيمان يؤتي هكذا ثمارا فمرحبا به، وإذا كانت القيم حينما تتحول إلى أفعال وممارسات ومؤسسات تبني هكذا صروحا، ليس فقط صروح المباني والهياكل، ولكن صروح البشر، فإن هذا يعطي لنا أكبر دليل على فعل الإيمان ومنظومة القيم والأخلاق حينما تصب في مشروع للتنمية والنهضة لا يختلف عليه اثنان.

المصدر: موقع "إسلام أون لاين"، 16 يوليو 2009.

Blogger Wordpress Gadgets