سبتمبر 12، 2014

كولن: علينا اليوم إظهار صدقنا ووفائنا

قال الداعية الإسلامي العلامة فتح الله كولن إن الخيانة في الأقوال والأفعال هي دليل على النفاق كما أخبرنا المولى عز وجل في كتابه الكريم.

جاء ذلك في درس جديد للأستاذ كولن نشره موقع herkul.org على شبكة الإنترنت وركّز فيه على الوفاء، حيث حمل الدرس عنوان “كونوا مع الصادقين”.

وأوضح كولن أن الخيانة في الأقوال والأفعال والأحوال دليل على النفاق، مشيرًا إلى أن الله سبحانه وتعالى خاطب المؤمنين في القرآن الكريم بقوله: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ” (التوبة – 119)، وأكد أن الصدق يعني الوفاء بالعهد.

وقال كولن إن الوفاء يعتبر بمثابة عقد وعهد مع الله عز وجل، مضيفًا “أن ترك الوفاء، الذي يعد قَسَمًا داخليًا، وعدم استحضاره في الأعمال والأفعال يشكِّل تناقضًا داخل الإنسان، والشخص الذي يعلن وفاءه لله من ناحية، ثم يتصرف بشكل مخالف لأوامره من ناحية أخرى، يكون قد تصرف دون وفاء وارتد على عقبيه”.

وفيما يلي نورد فقرات من درس الأستاذ كولن:

“إن الوفاء هو عهد مع الله، ومنذ اللحظة التي تقول فيها: “لا إله إلا الله محمد رسول الله” يكون الوفاء يمينًا وقسمًا داخليًا، كما أن هناك قَسَمًا خارجيًا، فتقول أقسم بشرفي أن أخدم بلدي وأحترم البشرية وأساهم في تقدم بلدي وازدهارها، هذا إضافة إلى أن الوفاء يعتبر قَسَمًا داخليًا من حيث علاقتك مع الله، وما دمت قلت: “لا إله إلا الله”، أي أنه لا مقصود بالحق ولا معبود بالإطلاق سواك، فإن أداء كل ما أمرتني به من واجبات هو شرط من شروط الوفاء، غير أنه ينبغي لك أن تظهر هذا الوفاء، وأنت ملزم كذلك بالوفاء بأي عهد قطعته على نفسك بحذافيره، فهذا قبول داخلي، إلا أن عدم انعكاس هذا الوفاء على الأعمال، وحبسه في الباطن، يعتبر تناقضًا داخل الإنسان، فمن ناحية، تعلن عن وفائك لله، ومن ناحية أخرى تخالف أوامره، وتتخلى عن صدقك في تصرفاتك، وترتد على عقبيك، ولا تفعل ما ألزمت نفسك به عندما قطعت عهدًا على نفسك، تقول أقسم بشرفي وما إلى ذلك، لكن لا تتصرف بوفاء مع الله عز وجل.

وعندما ننظر في كتب السيرة والغزوات نجد أن بضعة أشخاص من الصحب الكرام الذين انضموا إلى قافلة الإيمان، في مكة ومنى والعقبة، مع أوائل الأنصار، قالوا “لبيك!” ثم بدأوا يكدّون ويسعون لنشر الدعوة، وهذا شيء مهم جدًا، وعندما هاجر الصحابي مصعب بن عمير إلى المدينة، عاد بعد مدة بنحو 70 شخصًا من الرجال والنساء، فتبسم وجه النبي صلى الله عليه وسلم وتفتَّح كالوردة، ولعل النبي رأى في قدوم أهل المدينة؛ مهد المدنيّة والحضارة، إلى العقبة وغيرها، روحَ ومعنىَ ونقشَ 27 مدنية و حضارة ستؤسسها تلك العصبة المختارة طيلة القرون القادمة ففرح بذلك، تصافحوا وتعاهدوا هناك وبايعوا النبي عليه الصلاة والسلام. وهذا وفاء إزاء نبينا: “يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ” (الفتح – 10)، وعندما تنسب اليد إلى الله تكون صفة. ولقد لجأ القرآن الكريم إلى الاستعارة حتى يفهم البشر ويعرفوا قيمة هذه القضية، وإذا قطَع الإنسان عهداً على نفسه كان لزامًا عليه أن يفي به مهما كلفه الأمر.

إذا فقد المجتمع منبره ومحرابه تفكَّك وتحلَّل

“إن المجتمع الذي يفقد منبره ومحرابه يتشتت ويتفكك، ولا ينصلح حاله إلا إذا كان جميع أفراده يتجهون في اتجاه واحد ويحاولون إقامة الفكرة نفسها، وكما يقول المتصوف الشهير مولانا جلال الدين الرومي: “من يتقاسمون الحال نفسه يتفاهمون، لا من يتكلمون اللغة نفسها”، وإذا غاب هذا الحال وهذه الفكرة والمحراب والمنبر في دواخلكم، تتفرقون وتتقطع بكم السبل، وهكذا كان العهد في العقبة التي وفدوا إليها ثلاث مرات، وعاد أهل المدينة متشبعين ومتحمسين في كل مرة.

خرج النبي في غزوة تبوك، كما تعلمون، في شهر صيف حار، ربما يونيو/ حزيران أو أغسطس / آب. هذا فضلًا عن كون ذلك المكان قريبًا من خط الاستواء، فكروا معي في هذه المسألة في الحجاز، كيف كانت غزوة تبوك؟ سيأتي الرومان، وسينتصرون عليهم، وسيحرقون الكعبة والمحراب والمنبر (المحراب هنا كناية عن التوجه إلى الله، أما المنبر فيشير إلى حقيقة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام) ، وهناك مكة المكرمة والمدينة المنورة، فمكة هي محراب، أما المدينة فمنبر، والمراد الإلهي يعبر عنه هناك في المنبر، ثم فكروا في ذلك (حرق الكعبة والمحراب والمنبر)، وتوافدوا على ذلك المكان مرات ومرات، ولكن اعترض أمامهم في كل مرة ببطل من الأبطال. حال أحيانًا ألب أرسلان دون أملهم، وأحيانًا أخرى صلاح الدين، وأحيانًا نور الدين زنكي، وأحيانًا نظام الدين أو والد صلاح الدين.

إن الرومان هزموا الفرس في أثناء غزوة بدر، وتقول رواية أخرى إنهم هزموهم في أثناء غزوة الحديبية، وتتطرق التفاسير إلى هاتين القوتين. وتم تشكيل إدراك في الأذهان بأن العالم النصراني سيهاجم المسلمين، وسيحرق مكة والمدينة، وسيقضي على الإسلام هناك، وحينها يفرح المشركون، ويقول المنافقون “لقد أنجزنا مهمتنا”، ويفرح الفرس أيضًا، وربما يفرح سكان إفريقيا كذلك، ويبادر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حث المسلمين، في ظل هذه الظروف، على الدفاع عن أنفسهم وأعراضهم ودينهم ضد الرومان، الجميع يشارك في المعركة، لكن الجو حار جدًا، ويختلق المنافقون حججًا مختلفة، ويقولون كما جاء في سورة التوبة: “وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ” (التوبة – 81). ويحاولون تثبيط عزيمة المسلمين بقولهم إن الجو حار ولا نستطيع القتال في هذا الجو، فضلًا عن أنهم يتذرعون بأنهم لا يملكون أي قوة تستطيع أن تقف في وجه الرومان الذين يعتبرون إمبراطورية كبيرة. ويفرح المنافقون بهذا الكلام، أما نبينا عليه الصلاة والسلام فيدعو أصحابه من المهاجرين والأنصار إلى الحشد لمواجهة العدو في ظل هذه الظروف الصعبة للغاية، فيتحجج المنافقون بالحر، فيرد عليهم القرآن مخاطبًا النبي صلى الله عليه وسلم: “قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ” (التوبة – 81). فالمنافقون يستحقون نار جهنم بتخلفهم عن جيش المسلمين، وسيحرقون هناك، ويقول للمسلمين لا عليكم بحر الشمس اليوم، ويحشدهم للقتال، وبطبيعة الحال سيظهر ما يفعله المنافقون في الدار الآخرة”.

الإخلاص في القول والعمل في كل الأحوال
وينخدع بعض المسلمين أيضًا بهذه الأجواء المنافقة والإدراك الذي يتشكل من قبل الكفار والمنافقين، ويذكر القرآن الكريم ثلاثة من الصحابة، الذين كان من بينهم كعب بن مالك الذي يقول معترفًا “كان الجو حارًا جدًا، وكان هناك بلح تحت النخل عند المياه الباردة، من ناحية الظروف المحيطة صعبة للغاية، ومن ناحية أخرى لم يصدر إجبار جاد للخروج في هذا الجو. ولهذا فقد تخلفنا”. وتذكر سورة التوبة هذه القصة التي تحكي تخلف الصحابة الثلاثة، فيسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن كعب بن مالك، فيرد عليه الصحابة “لا، لم يأت يا رسول الله”، بيد أن هؤلاء الصحابة الثلاثة كانوا قد عاهدوا رسول الله على السمع والطاعة وبايعوه، وهو ما يلزمهم بالإخلاص في القول والعمل، ولقد قطعتم على أنفسكم عهدًا أنتم ملزمون بالوفاء به، الإخلاص في القول والعمل وفي كل الأحوال، نعم، إن النجاة في الصدق، والإخلاص حالًا وقولًا وفعلًا، والإخلاص في الطاعة والانقياد، والإخلاص في الإخلاص.

“عليك أن تكون صادقاً مخلصًا في كل شيئ، فإخلاف الوعد هو صفة من صفات النفاق. فالمنافق يعِد ثم يخلف وعده، وهذا شيء خطير، يحلف بشرفه، ثم يخلف كلامه، وإذا كان في الإنسان صفة من صفات النفاق ففيه علامة منه، أي أنه أقرب خطوة إلى الكفر، وإخلاف الوعد يذكر في الحديث بين علامات النفاق، وهناك علامات أخرى يذكرها الحديث، وإذا كان يخون الأمانة فهذه علامة أخرى، وإذا كان يغدر بأحدهم عندما يعاهده، فهكذا يكون عنده أربع علامات من النفاق، إذ يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: “أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا”، والمنافق أشد من الكافر.

يذكر القرآن الكريم في سورة المائدة أن هناك طبقات في جهنم. ويطلق وصف “دركة” على الطبقات السفلى من النار، ووصف “درجة” على طبقاتها العليا . والمنافقون يعذبون في الدرك الأسفل من النار. ونفهم من ذلك أنهم سيكونون حتى تحت الكافرين في النار. وهذا يعني أنهم لم يؤمنوا من داخلهم، بل تظاهروا بالإيمان. فذنبهم أنهم لم يؤمنوا من داخلهم، وهذا كفر. وهناك أيضًا مسألة التظاهر بالإيمان، وهذا يعتبر كفرًا مضاعفًا، وإذا أضفنا تظاهرهم بالإيمان القوي، يكون الكفر مكعبًا كما يقول الشاعر والسياسي التركي ضياء جوك ألب.

يكون هذا كفرًا ثلاثي الأبعاد، مثل عبد الله بن سلول، كان نفاقه ثلاثي الأبعاد، مع أن ابنته من كبريات الصحابيات الكرام، وابنه عبد الله من كبار الصحابة الذين شاركوا في غزوة بدر، لكن النبي عليه السلام لم يكشف عما كان يكنه بن سلول من مشاعر وما يضمره للإسلام والمسلمين لابنه وابنته، وربما كان يأتي إلى الصلاة في المسجد ليقف في الصف الأول. وبالتأكيد لم يكن يتوضأ. وربما كان يتبسّم دائمًا كلما نظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا إذا قال إنسان لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلا تستطيع أن تنعته بالكافر حتى وإن اطلعت على ما في قلبه وقرأت ما بداخله. وكان هناك أشياء يعارضها وأشياء أخرى يتصنّع فيها.

يجب الوفاء بالوعد، ولقد كان كعب ابن مالك والصحابيان الآخران قد تخلفوا عن المؤمنين. لكنني أقول بارك الله ألف كرة، وأرى أن من الشجاعة العظيمة ألا يتخلف أحد من المسلمين، باستثناء هؤلاء الثلاثة، في مواجهة جيش دولة كبيرة. وفي نهاية المطاف لا تكون هناك معركة فعلية واشتباكات، حيث لا يأتي الرومان، المنافقون يتملقون، فيأمرهم رسول الله عليه الصلاة والسلام بأن ينصرفوا بعد قبول عذرهم، لكن عندما يأتيه الصحابة الثلاثة يعرفهم ولكن لا يقبل معذرتهم، ينظر لهم نظرة قاسية، ويمنع الصحابة أن يتحدثوا إليهم. حتى إن زوجاتهم امتنعن عن التحدث إليهم ومن ثم انفصلن عنهم بعد مدة، ولا يحدثه ابن عمه، فيمر من منزله يومًا فيلقي عليه السلام فلا يرد، وكأن الصحابة أطلقوا حملة مقاطعة لهؤلاء الثلاثة.

لا ترجعوا عن تنفيذ وعودكم، وكونوا صادقين مخلصين. وإذا كنت قد قطعت على نفسك عهدًا بتنفيذ شيء ما، فعليك أن تفي بهذا العهد والوعد.

وما أحلى التوجه الإلهي وتوجّه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام بعد هذه الأيام الخمسين التي مرت بما فيها من اضطراب وتنغيص، وهل تعلمون ماذا يأتي عقب هذه الآية؟ يقول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ” (التوبة – 119)، وإذا قطعتم عهدًا على أنفسكم أوفوا به، هكذا يقول رب العباد، ومن كان هؤلاء الصادقون؟ كان هناك غير الصادقين الذين حاولوا خداع الرسول عليه الصلاة والسلام بخمسين نوعًا من الحجج والأعذار، من كان هؤلاء الصادقون؟ كانوا أولئك الذين صدقوا الله ورسوله وساندوا الرسول صلى الله عليه وسلم، على الرغم من شدة الحر ووحشة الصحراء الجرداء وقوة الرومان وجيشهم.

الصدق في الإيمان والقول والعمل
يكون الإنسان صادقًا مع هؤلاء الأشخاص الإيجابيين، والحق أنهم كانوا كذلك، وانظروا فهناك آية مستقلة أخرى، وتذكر سورتا التوبة والأحزاب أن هناك مؤمنين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حيث سار هؤلاء الشجعان إلى الاستشهاد في غزوة أحد معًا بشجاعة منقطعة النظير، ففكروا في وضع الصحابي عبد الله بن جحش ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال “يا ربّ.. أريد أن أحارب فيقابلني في المعركة كافر من الأقوياء أقاتله حق الموت، ثم يمزق جسدي تمزيقًا، وعندما آتي إليك وأنا أنزف دمًا وتسألني: “لماذا فعلت ذلك؟”، أقول لك “فعلته من أجل رضاك”، هكذا كان الصحابة شجعان أشداء.

وهناك الصحابي الآخر مصعب بن عمير، وهو المرشد والمعلم الأول، وقد اصطحب عددًا من الأنصار في المدينة المنورة وسار بهم إلى العقبة حيث يتواجد الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو شاب وسيم ينحدر من أسرة غنية في مكة، وعندما كان يسير في الطرقات كانت النساء يفتحن النوافذ للنظر إليه، رفس بطرف قدمه كل شيئ في شبابه، وبينما كان يستشهد في غزوة أحد، لم يكن قد ذاق شيئًا في سبيل نعيم الدنيا، ولم يكن يعرف أي شيء. وكان شجاعًا، وقد مُزق إربًا هو الآخر، وقد رفع يده وذراعه للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواجهة السيوف التي رُفعت عليه، وقد استمعت من أحدهم ولم أر في كتاب، لكنني رأيت في بعض الكتب أن ذراعيه قد قُطعتا، فيرفع ذراعه للدفاع عن النبي، فتطير ذراعه، ولا ينسحب إلى الوراء، يأتي أحدهم يستهدف بسيفه الرسول عليه السلام، فيرفع مصعب ذراعه الثانية. ويحاول ثالث الضرب بالسيف، فيمد رقبته ليحمي الرسول عليه الصلاة والسلام، أما الذي سمعت من ذلك الشيخ فهو أنه: يمرغ وجهه في التراب ويخفيه ويقول لشخص اقترب منه “لقد تركنا رسول الله خلفنا. فإذا سألني الله ماذا أقول له”، فقال الله: “مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ” (الأحزاب – 23). بعضهم استشهد، حيث سقط منهم 70 صحابيًا شهداء. وقد قال بعضهم “متى يحين علينا الدور؟”

ذلك أنهم عاهدوا الله على الموت في سبيله، وكما ترون فإن القضية مرتبطة بالصدق والإخلاص، الصدق في القول والعمل والإيمان، ولهذا تأتي كلمة الصدقة من الأصل نفسه، لأنها علامة للصدق، وهذا ينسحب كذلك على الأعمال التي نقوم بها.

ومن يصدق ويفي بما قطعه من عهد على نفسه حرفيًا ننظر إليه على أنه مؤمن، ولقد أدى الصحابة الكرام ما وقع على عاتقهم من مسؤولية في هذا الشأن، وصاروا أبطال هذا المضمار بإذن الله ولطفه وعنايته، ولنحاول من ناحية أخرى أن نفهم أهمية الصدق والإخلاص في حياة المؤمن.

صحيفة” زمان” التركية
Blogger Wordpress Gadgets