أكتوبر 10، 2014

كولن: تركيا تحتاج إلى دستور مدني يحمي الحقوق والحريات الأساسية

نضع بين أيديكم الجزء السادس والأخير من حوار جريدة زمان التركية مع الأستاذ فتح الله كولن.

س: في هذه الأيام تركيا تمر من ظروف صعبة. وبسبب هذه الظروف الصعبة يقع البعض في حالة من اليأس. برأيكم، كيف تخرج تركيا من هذه الأجواء المزعجة؟

ج: في مثل هذه الفترات، يجب اللجوء إلى المولى عز وجل، وطرقُ بابه، والتضرعُ إليه. فمَن لا يخشى عاقبتَه، يُخشَى من عاقبته. إن الذين يحسبون أنفسهم قد ضمنوا آخرتهم واطمأنوا إلى عاقبتهم بينما يشككون في إيمان غيرهم، إن هؤلاء قد أوقعوا أنفسهم في خطر كبير. فسيدنا عمر رضي الله عنه كان يرتجف خوفا على عاقبته، وعندما كان يوازن بين حسناته وسيئاته كان يقول “وددتُ أني سلِمتُ من الخلافة كَفافا، لا عليّ ولا لي”. نحن أيضاً، خصوصاً في آخر الزمان، ينبغي أن نرتجف قلقا عندما نفكر في عاقبتنا؛ يجب أن نستغيث بعنايته وبرحمته سبحانه ونقول: “خذ بيدي يا رب، وإلا فسوف أهلك”. أجل، إن الإيمان والتوكل ليسا ملاذا للفرد فقط، بل للمجتمعات كذلك. وإن الذين يبتعدون عن ذلك الملاذ، تَسحقهم أنانيتهم سحقا، لا سمح الله.

إن تركيا اليوم في أمس الحاجة إلى مناخ جديد يساعدها على اجتياز الأزمة التي تعاني منها. وإنه لمن الضروري جداً إعداد دستور مدني جديد يضمن الحقوق والحريات الأساسية. ومن أجل تحقيق هذا الغرض، أعتقد أنه يجب أن تزداد المطالبات المجتمعية، كما يجب على الشخصيات المسؤولة والمؤسسات المعنية أن تزيد من إلحاحها في إخراج دستور يتوافق مع مبادئ الحقوق العالمية. ولكن مع الأسف الشديد يبدو أن مبادئ الدولة الديمقراطية وسيادة القانون اليوم قد أصيبت بجروح بالغة. وإن العديد من المثقفين والمفكرين ذهبوا في تحليلاتهم إلى ما ذهبت إليه. وإذا ما ابتعدت تركيا عن جوهرها وقيمها الذاتية وعن مجتمعها، فإن ذلك سيؤدي بها إلى عزلة فادحة عن العالم.

إن دور الأفراد والمجتمعات اليوم لا يقل أهمية عن دور الدولة نفسها. وإنه لمن المستحيل أن تنفذوا مشروعا بالإكراه من أعلى بتلقين فوقيّ أو بضغط سلطوي. ففي بداية القرن العشرين كان بديع الزمان سعيد النورسي يقول: “الغلبة على المدنيين تتم عن طريق الإقناع، لا الإكراه”. ومن ثم فإن الضغوطات التي تمارَس على المجتمعات لا يمكن أن تثمر نتائج باقية. علينا أن نعالج المشاكل بصبر وتروٍّ ويقظة وتبصّر وفراسة.

وكلمتي إلى إخواني أنكم إذا تعاملتم مع الأزمة الراهنة بالرزانة والجدية التي تليق بأدبكم، وصمدتم أمام العواصف صابرين متوكلين، فلا بد أن يحل اليوم الذي ينتصر فيه العقل السليم. وحينئذ سيأتيكم بعضهم نادما لأنه اقترف إثم الغيبة في حقكم، والبعض الآخر خجِلا لأنه كان مع المتورطين في الافتراء عليكم، ولكنكم ستقولون لهم “لا تثريب عليكم اليوم”، وستفتحون لهم قلوبكم على مصاريعها، ولن تتركوهم يشعرون بخجل الذنب الذي ارتكبوه. لقد حصل هذا في التاريخ مرارا. فإذا ولّى أحدُهم ظهره إليكم وابتعد عنكم، ففعلتم مثله وسرتم في اتجاه معاكس له، فستتضاعف المسافة بينكم؛ ثم قد يأتي يوم تشعرون بمسيس الحاجة إلى الوفاق والاتفاق فيما بينكم، وتدركون بأنكم أخطأتم، لكنّ بُعد الشقة بينكم سيحول دون رغبتكم، وتنظرون فإذا بالأوان قد فات. ينبغي أن يكون شغلنا الشاغل -في هذه الفترة- أن نواصل في خدماتنا، وأن نزيد من سرعتنا، وألا نفكر بشيء آخر ونكتفي بالقول: “ستمضي هذه كما مضت شقيقاتها”. نعم، هذه هي قناعة هذا الفقير.

سيزعم البعض أن المنحى الذي اتخذته “الخدمة” اليوم يناقض فكرة “العمل الإيجابي” التي طرحها بديع الزمان سعيد النورسي؟

ج: الأستاذ بديع الزمان، عندما يؤكد على أهمية هذا المفهوم في مؤلفاته يرسم إطارا له حيث يقول: “التصرف وفق مرضاة الله تعالى، القيام بالخدمة الإيمانية، عدم التدخل في المشيئة الربانية، الحفاظ على الأمن العام، الاعتصام بالصبر والشكر”. العمل الإيجابي، ليس هو السكوت أمام الظلم. بديع الزمان لم يسكت أبدا أمام الظلم فقط لأن “السلطة هي من ارتكبت ذلك”، ولم يسكت أمام انتهاك الحقوق فقط لأن “السلطة هي من فعلت ذلك”، بل ردّ على الافتراءات فورا ، ودافع في المحاكم عن نفسه وعن قضيته ساعات طويلة. و”الملاحق” غنية بأمثلة ذلك.

ماذا فعل متطوعو الخدمة -حتى الآن- سوى الدفاع عن أنفسهم إزاء الاعتداءات القولية الشرسة بأسلوب متحضر لبق، والإعراب عن حقيقة الافتراءات الموجهة إليهم بالدليل الصحيح؟ ماذا فعلوا؟ قالوا فقط: “دعوا السيادة للقانون، دعوا المحاكم تشتغل، لا تتدخلوا في سيادة القانون وعمل المحاكم”. ثم إن وسائل الإعلام القريبة من الخدمة، لم تفعل شيئا سوى نشر أخبار حول ادعاءات تداولتها -أصلا- المحاكم، وأصبحت حديث الساعة لدى الرأي العام، مثل ادعاءات الفساد وسوء استغلال بعض المسؤولين لأموال الشعب، وحاولت أن تزوّد الرأي العام بمعلومات حول تلك الادعاءات. فبدل أن يتمّ الردُّ على ادعاءات الفساد ويتمّ توضيحُها بالتفصيل، وجدنا أنهم منذ أشهر يُمطرون أناسا أبرياء بألوان شتى من الافتراءات الجائرة والإهانات البشعة دون تقديم أي دليل ملموس، وبأسلوب لا يمتّ إلى الإنصاف بأي صلة.

س: ظهر في الآونة الأخيرة بعض من يقول إنه رافقكم ما يزيد عن 40 سنة، وينسب إليكم بعض الأقاويل الغريبة من أمثال أنكم “المسيح” أو “المهدي” أو قلتم “تكلمتُ مع الله” أو أنكم “إمام الكائنات”. هلاّ تكرمتم علينا بأفكاركم حول هذه الادعاءات؟

ج: مسألة المهدي والمسيح شغلت المجتمعات الإسلامية منذ القديم بطريقة أو بأخرى. أما معالجة المسألة من الناحية العلمية وتقييمها فذلك موضوع آخر. ولقد وُجِد طوال التاريخ من أثبت المسألة ومن نفاها. ولكن أسيء استغلالها من قِبل أصحاب النوايا السيئة على الدوام. ثم إن بعض الأوساط لفّقوا مثل هذه الافتراءات بالأستاذ بديع الزمان كذلك، واستغلوا التأويلات التي جاء بها في موضوع المهدي والمسيح أيما استغلال، وادعوا -بهتانا وزورا- أنه كان يظن نفسه المهدي أو المسيح.

لقد درس عندي العشرات من الطلبة حتى الآن؛ وجميعهم يشهدون -على اعتبارهم يعرفونني عن كثب- أنني أُعدّ القيامَ بمثل هذه الادعاءات كفرا وضلالا. إنهم سمعوني عشرات المرات أقول “تعرفون أمي وتعرفون أبي، ألا يكفينا أن نكون عبادا لله مخلصين، كن بين الناس فردا من الناس”. أضف إلى ذلك أنني ما رأيت عاقلاً في البيئة التي نشأتُ فيها ولا في أماكن أخرى، أنْ جاء فتَوهم في نفسه رتبة أو مقاما من هذا القبيل. لا يقول مثل هذا الكلام إلا من حُرِم نعمة العقل. ثم إني اعتبرتُ دائماً هذا النوع من الاتهامات، من أشنع الشتائم وأغلظ السِّباب. كما أن الذين يديرون ألسنتَهم بهذه الافتراءات لا يعون أنهم يسخرون من عقول هذه الأمة. هنا أعود لأقول كما قال مولانا جلال الدين الرومي: لا المهدوية، ولا المسيحية، ولا أي شارة أخرى، إنما أنا عبد بسيط من عباد الله. أنا خادم القرآن ما حييتُ، وغبار قدم النبي (ص)، وإذا نقل أحدُهم عني غير ذلك، فإني أبرأ منه وأشكوه إلى الله”.

أما الفرية الأخرى، فإني أستغرب، كيف يقولون هذه الافتراءات بهذه السهولة؟ ومن يدّعي ذلك يعرف حق المعرفة حساسيتي تجاه هذا الأمر. والقرآن يقول بوضوح: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾(الشورى:51). إن أبسط معلومة إيمانية يمتلكها الإنسان تعلّمه الأدبَ مع الله سبحانه وتعالى. نحن نشأنا في بيئة كانت قلوب الرجال فيها ترتجف بمجرد سماع اسم “الله”، وتنحني بانكسار وتذوب بإكبار للذات العلية. نعم، الفقير نشأ في بيئة ثقافية من هذا الطراز، لذا لا يمكن أن تجدوا لا في هذه البيئة ولا في غيرها مَن يدّعي مثل هذه الادعاءات البشعة أبداً.

أما فرية “إمام الكائنات” فلا تستحق الوقوف عندها أصلاً. فأيّ إنصاف وأيّ وجدان يمكن أن يقبل مثل هذا البهتان. إنهم يدّعون هيكلا هرميا للخدمة زائفا وهميا، لم يخطر ببالي قط، ولم أر له مثيلاً طيلة حياتي التي قضيتها في سبيل الله والتي تناهز السبعين سنة. أيّ تلوّث هذا الذي أصاب تلك العقول، وأيّ عَفَن أصاب تلك الأرواح!؟ إنهم يضعون مخططات وهمية وكأنهم يهزؤون بعقول الآلاف بل ربما الملايين من الناس الذين ربطوا قلوبهم بهذه الخدمة المباركة.

فهؤلاء الذين يتحدثون عن بنية هرمية وينسبون المناصب والمقامات لرجالات هذا العمل الطيب، إما أنهم لم يفهموا هؤلاء الأبطال أبدا، أو ينفثون افتراءاتهم بناء على أحقاد دفينة أو نوايا مغرضة لديهم. يقول الأستاذ النورسي: “إن أساس مسلكنا هو الأخوة في الله، وإن الروابط التي تربطنا ببعضنا هي روابط الأخوة الحقيقية، وليست رابطة الأب مع الابن ولا علاقة الشيخ مع المريد”. نعم، إن الذين يعرفونني، يعرفون جيداً أنني أَعتبر الطالبَ الذي أدرِّسه زميلَ مُدارسة لي دائماً، ولم أر نفسي أستاذاً عليه قط.

س: يدّعون أنكم تستهينون بحجاب المرأة وتعتبرونه من الفروع. ما تعليقكم؟

ج: الحقائق المتعلقة بالعقيدة وأفعال المكلفين في الإسلام تُصنَّف في قسمين اثنين؛ الأصول والفروع. الالتزامات المتعلقة بالعقيدة تُصنّف تحت قسم الأصول، أما المتعلقة بالأعمال والأفعال والمعاملات فتصنَّف تحت قسم الفروع. الأحكام المتعلقة بالعمل، بالمقارنة على الأسس المتعلقة بالعقيدة، تأتي بالدرجة الثانية وتُبنى دائماً على الأصول. ولأن الحجاب موضوع عملي، فإنه من الفروع. ويجب أن لا ننسى أن الرؤية العامة لدى علماء الإسلام أن الحجاب من الفروع. بعض الصحفيين –بسبب قلة العلم- قد لا يراعون هذه التفاصيل الدقيقة في لغة الأخبار والصحافة، ولكن علماء الدين والدراسات الإسلامية بالتأكيد يعرفون هذه المسائل جيداً، لأن الذي لا يعرف مفاهيم الفروع والأصول لا يُمنَح الإجازة الشرعية. ثم إن هذه المعلومة ليست من المعلومات المعقدة، بل هي معلومة تدرَّس في التعليم الابتدائي. وأعتقد أن الذين أداروا حملة إعلامية ضد هذا الفقير منذ البداية حتى اليوم واستغلوا وصفي للحجاب بـ”الفروع” استغلالا مغرضا، لا يعرفون معنى الفروع والأصول في العلوم الإسلامية. لذلك أداروا حملة تشويهية مقصودة. ثم إني استخدمت بالتركية مصطلح “فروعات”، ولكنهم –لضعف في العلم- نقلوها إلى جرائدهم بـ”تفرّعات”. كلمة “فروعات” و”تفرعات” وإن كانت من نفس الجذر باللغة التركية إلا أن كلمة “تفرّعات” في اللغة التركية تعني “التافه” الذي لا أهمية له. فلا أدري هل سبب معاناتنا يعود إلى اللغة التركية نفسها، أم إلى من يخلطون بين المفاهيم والمصطلحات أم يعود إلى نوايا مغرضة يحملها الصديق ليضلل بها الرأي العام ويشوّه سمعتنا، لا أدري.

ولا بد أن ألفت الانتباه إلى أن كون الحجاب من “الفروعات” لا يعني أنه ليس فرضا. إن الحجاب فرض. وهناك أحكام عملية كثيرة هي من الفروع وهي فرض وواجب شرعي. ولو كنتُ -كما يدّعون- رجلاً لا يبالي بمشكلة الحجاب ويستخف به -حاشا لله- لَما كتبتُ رسالة إلى السيد رئيس الوزراء في عام 2006 أكدت فيها ضرورة حلّ هذه المسألة في أقرب وقت ممكن. ومَن يحبّ الاطلاع على تلك الرسالة فهي موجودة، وقد نشرتها الصحف.

س: بعض رجال الدين يدّعون أن حركة الخدمة خرجت على وليّ الأمر وعصت الحكومة الشرعية. ما رأيكم؟

ج: الطاعة لأولي الأمر، لا تعني السكوت حيال أخطاء الإداريين والتخلي عن الحق والحقيقة. ثم إن مهمة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” لا تمارَس على المواطن العادي الذي يمشي في الشارع فقط، بل تشمل الجميع. إن مجال سياسة الشأن العام مجال اجتهادي، وليس من أصول الدين الثابتة التي لا تقبل الاجتهاد. وإن الاختلاف في مجال اجتهادي أمر طبيعي للغاية. وليس بالضرورة لجماعات خدمية أو لأبناء جماعة واحدة أن يفكروا بنفس النمط من التفكير في موضوع واحد، ويتحركوا بنفس النمط من التحرك في قضية واحدة. أما إذا كنتم تعيشون في نظام ديمقراطي، فلكم الحق في أن تعبروا عن وجهات نظركم بكل حرية، وإلا فإنها ديمقراطية لا يتوفر فيها الحد الأدنى من شروط الديمقراطية. وإن ممارسة ضغوطات سلطوية استنادا على مفاهيم دينية قد يؤدي إلى نتائج سياسية وقانونية لا تُحمَد عقباها. في واقع تركيا، هناك نمط سياسي يزداد سلطوية يوما بعد يوم، أضف إلى أنه يمارس ضغوطات على الناس ويغلّف هذه الممارسات بأغلفة “الشرعية الإسلامية”.

للأسف الشديد كانت القضية في منتهى البساطة حيث طُرحت للنقاش بعضُ التصرفات السلبية التي بدت في جانب السلطة التنفيذية، وكان بالإمكان مناقشتها وتلافيها، ولكن ضُخّمت المسائل، وفُسّرت خطأ، وحُمّلت من المعاني ما لا تحتمل، وتم إعلان حرب عقدية ضد جماعة معينة وأعلن نفير عام ضدها، حتى إنهم أوصلوا الموضوع إلى حملة إبادة جماعية وحملة تكفيرٍ منظَّمة ضدها.

هؤلاء الذين يهتفون في وجوهنا أن “لا تثيروا فتنة”، أليس من واجبهم أن يُسدُوا النصيحة نفسها إلى القائمين على أمر الحكومة والذين اعتادوا إمطار الأبرياء بالشتم والإهانة في الساحات العامة؟ إن أناسا لا يجرؤون على إسداء أدنى نصيحة، بل لا يجرؤون حتى على أن يومئوا إيماءة نصح لرجال الحكومة، ناهيك عن توجيه انتقاد، لا تعني أقوالهم سوى ضربات مدمرة لهذه الحركة المباركة، التي أصبح –للأسف- تحقيرها وإهانتها أرخص بضاعة وأسهل عمل.
Blogger Wordpress Gadgets