س: حكومة العدالة والتنمية تُفِيد بأنها تقوم بحركة تصفية ضدّ وكلاء النيابة ورجال الأمن المرتبطين بحركة الخدمة. هل هذا يقلقكم؟ هذه التصفيات داخل الدولة ما مدى إضرارها بحركتكم؟
ج: كل ما هو خطأ يزعجنا، ولكن ليس من الصحيح التسليم بأن جميع مَن تَعرَّضوا للتصفية ومن نُقِلوا إلى مواقع أخرى هم من الجماعة. أحسب أن بين هؤلاء الرجال يساريين وديمقراطيين ووطنيين وقوميين. وليس بمقدرونا أن نرفع إعلانات للناس نقول لهم فيها “حذار ثم حذار.. إياكم أن تتعاطفوا معنا، إياكم أن تحبوا خدمتنا وحركتنا”، لسنا مكلَّفين بذلك، ومن الطبيعي أن يشعر بعضهم بتعاطف. كما قلت من قبل، لا أعرف واحدا في الألف من هؤلاء الذين شتَّتُوهم في الشرق والغرب، ولا أبالغ في ذلك، لأن الله سيحاسبني على ما أقول.
ولكن في ما بعد قد يظهر ذلك جليًّا، هؤلاء الناس، وكلاء النيابة، القضاة، رجال الأمن، عندما يطالبون بالعودة إلى مواقعهم لعلّهم يكشفون عن حقيقة انتماءاتهم، فيقول بعضهم مثلاً: “أنا أنسان في التيار الفلاني، أو أفكر في الاتجاه الفلاني”. عندئذ لن نخجل نحن، ولكن البعض سيخجل حتمًا. في الوضع الراهن احترق الأخضر واليابس، كما يقول المثل التركي. وأعتقد أن المسؤولين أنفسهم عندما يقفون أمام ضمائرهم وجهًا لوجه، سيحاسبون أنفسهم على ذلك.
س: هل تشاركون الرأي القائل بأن هذه الفترة هي أصعب فترة مرت على “الخدمة” طوال 50 سنة من تاريخها؟ وهل ترون تشابُهًا بين ما تعيشونه وما عاشه سعيد النورسي سابقًا في عهد حكم الحزب الواحد؟
ج: عندما لا تتحركون وَفْقًا لتصوراتهم ومشاعرهم يَعُدُّون ذلك جريمة، وما نعيشه قد يكون نتيجة خطأٍ ارتكبناه. أما أنا فقناعتي الشخصية أن ما نعيشه اليوم عقاب من الله لنا. ذكرتم بديع الزمان، فهو يقول: “الآن أدركتُ حكمةَ الأذى والتعذيب الذي تَعرَّضتُ له منذ سنوات. جريمتي أنا أنني استعملتُ الخدمة الإيمانية أداةً لارتقائي المادِّيّ والمعنويّ”. بينما كان ينبغي أن أبتغي وجه الله فحسب، وأتحرَّى الإخلاص في ما أقوم به. ما أفعله يجب أن يُفِيد الإنسانية، ينبغي أن تجد الإنسانية فائدة لها في ما أفعل. فلو نذر الإنسان نفسه للدين بُغْيَة التحليق في الهواء والمشي على الماء، فإن ذلك مناقض للإخلاص، ومن ثَمَّ يستحقُّ عقاب الله.
وجاء في آية كريمة: “ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك”. فنحن نقول إننا ملتزمون بالسير على صراط مستقيم، ونؤكِّد أننا سائرون في سبيل الناذرين أنفسَهُم لله، ولكن لأننا لم نتصرف بما يليق بتصرُّفاتِ من نذروا أنفسهم لله حقًّا، فلربما ينبهنا الله بهذه اللطمات. ولكن لا يعني هذا أن تصرُّفات الآخرين صحيحة، فالله سيحاسبهم كذلك على ما فعلوا.
س: كيف تقيِّمون فضائح الفساد في تركيا والتطوُّرات التي واكبت تلك القضايا؟
ج: لست أدرى من أين أبدأ، لكن يبدو أن فسادًا قد وقع. الجميع يؤكِّد ذلك. الخواصُّ والعوامُّ كما كان يقول القدماء، أي بدءًا من عامة الناس حتى المثقَّفين والنُّخَب، الجميعُ تقريبًا يرى حقيقة المسألة ويعرفها، ولا يمكن لأحد أن يغيِّر الحقيقة. ولكن يبدو أنه كان في باطنهم (الحزب الحاكم) انزعاج، انزعاج من الجماعة، فتَذَرّعوا بفضائح الفساد للحسم في أمرها. ولكن كان الضحيةَ القضاةُ ووكلاءُ النيابة الذين أجْرَوا هذه التحقيقات، فدفعوا الثمن بأن شُتِّتوا ذات اليمن وذات الشِّمال. وهؤلاء الناس عندما يعودون إلى مواقعهم، غالبا سيُفصِحون عن اتجاهاتهم. وسيرى الجميع أن من بين هؤلاء القضاة ووكلاء النيابة والشرطة مَن هو قوميٌّ، ومَن هو مِن حزب الحركة القومية، وأن بعضهم من القوميين العلمانيين. ولكن أرادوا أن يضخِّموا المسألة ويزيدوها غموضًا، فادَّعَوا أن هؤلاء دولة بديلة أو دولة موازية تَسرَّبوا في بعض المواقع ونَفَذُوا إلى بعض الأماكن بالكامل، وادَّعَوا أن هؤلاء (الذين شردوهم) متجانسون في ما بينهم ويحملون نفس الأفكار ونفس العواطف. أعتقد أنهم انتهزوا هذه الفرصة واستغَلُّوا هذه الفضائح للبَتّ في أمرٍ كانوا يُخْفُونه في باطنهم من زمان، فلجَؤوا إلى المبالغة والتضخيم، وأرادوا أن يشحَذُوا قواعدهم الشعبية بمناورة حاسمة من هذا القبيل، وبالأخَصِّ مع ظهور فرصة فريدة كهذه.
ومَن يدري؟ لعلهم يشعرون بالندم يومًا ويبكون على تصرُّفهم هذا ويعبِّرون عن ندمهم وأسفهم، لأننا سبق أن تَعرَّضنا لتجارِب مريرةٍ مماثلة انتهت بالندم، إذ أرسل إلينا مئات من الناس إيميلات قالول لنا فيها: “سامحونا، فقد ظلمناكم”. حدث هذا في أيام سلطة العسكر وفي عهود أخرى حينما أراد بعض القوى الغاشمة أن يفرض وصايته على الجميع. تَكرَّر ذلك في فترات عديدة من دورة التاريخ، لا سيما في التاريخ القريب. وسيندم بعض هؤلاء ويسعى لتصحيح ما قاله اليوم. بَيد أن المسألة في هذه الأيام سائرة في الاتجاه المعروف، لا سيما في وجود إعلام منحاز للحزب، وأقلام مناصرة تحرِّف بعض المسائل وتموِّه الحقيقة.
انتهاكات للديمقراطية وانتهاكات للقانون
وقتها كنت هنا (في أمريكا)، وسُمِّيَت بعاصفة حزيران، كانت سنة 1999. وسائلُ الإعلام حينئذٍ فعلَت نفس ما تفعله اليوم، والمحاكمة استمرَّت ما يقرب من 8 سنوات، ثم انتهت ببراءتنا. ومحكمة التمييز صدَّقَت على الحكم. وقد ألَّف أحد الباحثين الأكاديميين من هنا (من أمريكا) كتابًا حول مسار تلك القضية والمحكمة، حتى إنه سجّل في كتابه عديدًا من الأحداث التي نسيتها شخصيًّا، أي إننا عشنا مثل هذه المكابدات مِرارًا، واليوم نعيش واحدة من تلك المآسي. ويبدو أنها ستتكرر في ما بعد كذلك، لكن هذه الأحداث -في رأيي- تُعرِّض تركيا لخسائر كبيرة، وستنعكس آثارها على نظرة أمريكا والاتحاد الأوربي إلينا بصورة سلبية، لأن الأخطاء التي تُرتَكَب مناقضة للديمقراطية، ومناقضة للقضاء والقانون، وذلك أمر يتفق عليه الجميع تقريبًا في هذه الأيام.
ولكن هل يمكن تقويم ما اعوَجّ بشكل سريع؟ هل تعود الأمور إلى نصابها من جديد؟ نعم، إذا كان الإنصاف سيد الموقف. هذا الفقير لم أتفوَّه بأي كلمة حتى من باب الدفاع عن النفس، لا سيما وأنني كنت مريضًا بعض الشيء. وأنا مُصِرٌّ على أن لا أقولَ شيئًا في هذا الموضوع. ولعلّ بعض الأصدقاء يكتفي بنشر بعض التوضيحات والتصحيحات والتكذيبات فقط. فالذين يُنظَر إليهم على أنهم جزء من هذا الخير أبدَوْا بعض التصريحات، لكنني لم أُعرِب عن أي فكرة حول الموضوع ولم أعلِّق بشيء، وسوف أبقى كذلك. أجل، لن أقول شيئًا بعد اليوم.
س: رئيس الوزراء ليس وحده من يتَّهم حركتكم بتشكيل “دولة موازية”، تقول جهات أخرى الشيء نفسه، كما يقولون إنه لا يمكن أن تنطلق أي ملاحقة فساد ما لم تصدروا أوامر بذلك.
ج: وسائل الإعلام تناقلت خبرًا عن أنهم (الحكومة) كانوا على علم بالمسألة مُسبَقًا. المخابرات الوطنية سبق أن أخبرتهم بذلك قبل 8 أشهر. المخابرات مؤسَّسة تابعة للسيد رئيس الوزراء، وسبق أن أخبرَته بذلك. إذن توجَد متابعات، وتوجد تحرِّيَات، وقد نفّذ المسؤولون العملية وَفقًا لِمَا يفعلونه في العادة. بهذه المناسبة اسمحوا لي أن أشرح لكم مسألة: حدَّثَنا أحد أصدقائنا قبل أيام قال: “كنت أسير بسيارتي في الشارع، فتوقفت في الضوء الأحمر، فجاءت سيارة شرطة كانت تسير بسرعة زائدة فصدمت سيارتي من الوارء، فجاءني الشرطي يضايقني، وصرخ في وجهي قائلاً «لماذا توقفت؟ أنت سبب الحادثة»، قلت له لا أعرف قانونًا ألغى وجوب التوقُّف في الضوء الأحمر، لذلك توقفت، معذرة إن كنت أخطأت”.
محاولات لإظهار الرشوة على أنها شيء عادي
المعروف أن الرشوة والتهريب والالتماس والوساطة وإدخال الفساد في المناقصات جرائم في حد ذاتها، ومن ثَم عندما رأى رجال القضاء والأمن -المنتمون إلى اتجاهات فكرية شتَّى- هذه الانتهاكات تَحرَّكُوا وَفْق القانون فقبضوا على المجرمين، لكن من أين لهم أن يعلموا أن هذه الانتهاكات لم تعُدْ جرائم؟! ولأنهم لم يعلموا ذلك تَورَّطُوا في هذا الخطأ.
يبدو أن تحقيقات الفساد أزعجتهم (الحكومة)، لذلك اختزلوا الموضوع في الترويج لتهمة “الدولة الموازية”، بينما الواقع في الأصل أنها سلسلة من المساوئ مثل فضائح الرشوة وإدخال الفساد في المناقصات، لكن لا أحد يتحدث عن ذلك أبدًا، بل كأنها مسائل عادية، أو هكذا يُراد لها أن تكون. لا يمكن أن يحصل هؤلاء الرجال على أوامر منِّي. فما إن حصلت تحقيقات في مدينة ما حتى بادروا إلى التدخل فورًا والتضييق على الشرطة ووكلاء النيابة والقضاة، وأقالوهم ورموا بهم بعيدًا. وقد سبق أن فعلوا بهؤلاء الرجال نفس الشيء قبل فترة. هؤلاء في الأصل كوادر أتَوْا بهم هم أنفسهم. وأعتقد أن الموظفين الجُدُدَ لو فعلوا شيئًا مماثلاً فسيُقِيلُونهم فورًا ويأتون بآخرين بدلاً منهم. أعتقد أن هناك فوضى من هذا النوع اليوم. من ثَم فلا علاقة لي بالموضوع قطعًا، وكما قلت في مناسبات عديدة، أنا لا أعرف ولا واحدًا في الألف شخص ممن أجْرَوا عمليات التحقيق تلك، وأؤكِّد ذلك بكل وضوح واطمئنان.
س: لقد ذكرتم مِرارًا رغبتكم في إبعاد حركتكم عن السياسية ما أمكن، وقد أصبحت الحركة الآن في مركز النقاشات السياسية، هل شعرتم بالندم من ذلك؟
ج: لم أشعر بأي ندم قَطّ، ولا أنتقد القدَر أبدًا. وإذا خطر على بالي أيُّ نقد للقدر أعود فأستغفر ربي. وكما قلت قبل قليل، إن الله يعاقبُنا بأيدي آخرين لأننا لم ننجح في توثيق ارتباطنا مع الله بالمستوى المطلوب. وتُقال عبارة على أنها حديث نبوي: “الظالم سيف الله، ينتقم به، ثم ينتقم منه”. المسألة ليست مسألة ندم، ولكن أن ننتهز هذه الفرصة لكي نواجه أنفسنا. يُروَى عن سيدنا عمر (رضي الله عنه) أنه قال: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا”، أنا أنظر إلى المسألة من هذه الزواية. هذا لا يعني في المقابل أن جميع ما فعله هؤلاء الإخوة (في الحكومة) كان صائبًا مئة بالمئة.
س: لقد دعمتم حكومة حزب العدالة والتنمية في جزء كبير من حكمها وعلى أصعدة شتى وفي أرضيات مشترَكة عديدة، ولكن البعض يرى أنكم في ما بعد تنازعتم بسبب خلافات حدثت بينكم في مرحلة حلّ الأزمة الكردية، وكذلك موضوع سفينة “ماوي مرمرة”، وما أعقب ذلك من تدهوُر العلاقات مع إسرائيل، فما تعليقكم؟
ج: لم نكُن في خطّ واحد بالكامل مع أي حزب سياسي في أي وقت من الأوقات… مهما كان ذلك الحزب.. وقد يكون هذا حزب الحركة القومية، أو حزب الشعب الجمهوري، أو حزب العدالة والتنمية، أو حزب الطريق القويم، أو حزب الوطن الأم. علمًا بأن الحزبين الأخيرين لا يوجَدان اليوم. لقد اعتبرنا تأييد الإجراءات الصحيحة التي أنجزتها هذه الأحزاب واجبًا إنسانيًّا. بناء على ذلك في أثناء استفتاء (2010) أدليتُ بكلمات لم يسبق أن قلتُها حتى ذلك اليوم. قلت إنه تفتُّح ديمقراطي، استفتاء من أجل الديمقراطية، وعلى الجميع أن يقول “نعم” للتغيير، أي إن مجلس القضاء الأعلى والمدَّعِين العموميين ينبغي أن يتشكل وفق إطار ديمقراطي.
أجل، لكن لم أكُن أقول تلك العبارات لأول مرة، بل قبل 20 عامًا سبق أن قلت “الديمقراطية مرحلة ينبغي أن لا نرجع عنها”، فثاروا في وجهي وأقاموا قيامة أيضًا، هؤلاء الذين يكتبون اليوم ضدِّي، فاحتجُّوا قائلين: “ما معنى هذا الكلام؟ وهل من صلة بين الإسلام والديمقراطية؟” ولكن في ما بعد قالوا أكثر مما قلت، وذهبوا في ذلك بعيدًا، وقالوا إنه يمكن التفكير في أنماط أخرى كذلك.
من ثم فتشابُه المواقف لا يعني أننا في خط واحد.، ولكن إذا رأينا أنهم يمثِّلون في إجراءاتهم جزءًا من المعقولية، المعقولية من الناحية الحقوقية، والمعقولية من الناحية الديمقراطية، والمعقولية من ناحية خدمة الأُمَّة، والإيجابية في بناء علاقات طيبة مع دول الجوار، فقد نبدو متشاركين معهم في هذه المواقف، وقد نظهر معًا في نفس الصورة.
أما الأصل، فإنه لم يكُن لنا أي صلة مع أي حزب سياسي ما عدا التصويت في الانتخابات. ولكن ربما تعاطَفَ معهم رجلان فطلبوهما هم أنفسهم ليشاركا في الحزب، فوقع ذلك، لكن ذلك لا يتجاوز اثنين حتى اليوم، وإلا فلو أردنا لوجَّهْنا آخرين في ذلك الاتجاه، ولشكَّلُوا العمود الفقري لذلك الحزب، ولكانت هناك أصوات أخرى، لكننا لم نرغب في ذلك قَطّ.
سبق أن قدّمنا مقترَحَات لحلّ المشلكة الكردية
أما عن المسألة الكردية، فقد دعمنا عملية السلام قبل الحكومة بزمن طويل. ما يقوم به هذا الفقير مجرَّد تشجيع. سبق أن قدمت لهم مقترَحات مكتوبة من قبل، قلتُ فيها إنه يجب بسْط أجنحة الرعاية على المنطقة (جنوبي شرقي تركيا). يجب رعاية المنطقة على الصعيد التربوي والصعيد الصحي والصعيد الديني وعلى مستوى الأئمَّة والمؤذِّنين، وعلى صعيد جهاز الأمن… إلخ. عليكم أن تشملوهم برعايتكم، لأن الناس هناك تَعرَّضوا لمظالم كثيرة، بادِرُوا، وإلا فسيضخِّمون المشكاكل هناك، ويورِّثونها الأجيال القادمة. ولكن للأسف لم يُولِ أيٌّ منهم الموضوع اهتمامًا.
ولعلَّه مضى على ذلك أكثر من عشر سنوات، فنحن قدَّمنا مقترحاتنا قبلهم بكثير، وعندما لم يسعوا إلى فعل شيء، شجع هذا الفقير الإخوة والأصدقاء والمحبين والمتعاطفين، على العمل، فلا أدري بالتحديد ماذا فعلوا، ولكن أسَّسوا مدارس عديدة ومعاهد كثيرة لإعداد الطلاب للجامعات والثانويات، وحاولوا أن يقطعوا طريق الصعود إلى الجبال عبر إقامة أنشطة تربوية. هذا ما حدث فعلاً.
ولكن الغريب أنهم لجؤوا إلى تشويه سمعتنا وروَّجوا أننا ضدَّ عملية السلام. كلاَّ، أبدًا، ولكن مقاربتنا لحل المسألة كانت مختلفة، فنحن ارتأينا أن يكون الحلّ من خلال التربية والتعليم، ومن خلال تأسيس روح التوافق والاتفاق، وكذلك من خلال الاستثمارات الاقتصادية التي تساعد على إزالة الفقر في المنطقة. وسارت الأنشطة في ذلك الاتجاه بالفعل. ولم تقتصر هذه الأعمال على الداخل التركي، بل انتقلت إلى شمال العراق كذلك، والإخوة أقاموا هنالك نفس الخدمات. أنا لم أذهب ولم أرَ المنجزات شخصيًّا، ولكن ما تمَّ هناك عمل ملحميّ بحقّ.
حقيقة الأمر أن افتراءاتٍ تُلصَق بالحركة، وتَحدُث تجاوزات واعتداءات، ورغم ذلك فالصواب الذي آمنَّا به وارتأيناه هو أن نقف كما وقف مولانا جلال الدين الرومي، إذ كانت إحدى رِجْلَيْنا في قلب عالَمنا الفكري وصُلْب ثوابتنا وغايتنا السامية، والرِّجْل الأخرى فتحناها للأنسانية كافةً واحتضَنَّا الجميع. هذه هي الفلسفة التي نؤمن بها. هذا خُلُقنا وهذه هي رؤيتنا إزاء الجميع، جميع الناس.
من يعرفْ هذا الفقيرَ عن قُرب يعلَمْ ذلك يقينًا. في ما بعد جاءت الدولة لتتبنَّى الفكرة، ولكن ليس هذا فقط، بل التقينا مِرارًا جماعات الأرثوذكس والأرمن، الذين هُمِّشُوا وأُقْصُوا في تركيا، فجلسنا على المائدة نفسها وأكلنا من الطبق نفسه. بإذن الله ولطفه، باب التواصُل ذاك فتحه لأول مرة في تركيا إخواننا وأصدقاؤنا وأحباؤنا.
لو وقعت “ماوي مرمرة اليوم” لأبديت الموقف نفسه
يتحدثون عن بعض المسائل المتعلقة بإسرائيل أو مشروع الشرق الأوسط الكبير، إلخ، ربما التقينا الحاخام في وقت ما، والتقينا “بينتو” رئيس وقف الخمسمئة عام في إسطنبول وقتها، وإسحاق ألاتون، وهو رجل صادق أثنى على الفعاليات التي تنفِّذها الحركة خارج تركيا، وتَصَدَّى أحيانًا لبعض المشكلات هنا، وما فعل ذلك إلا بمشاعرَ إنسانية بحتة. هذا هو كل ما في الأمر، وأعتقد أنه ليس من حقِّ أحد أن يقول كلمة عن علاقة صغيرة كهذه. أما إظهار الحركة كأنها موالية لإسرائيل، وكأنها تفضِّل إسرائيل على أُمَّتِها، فلا يمكن أن يأتوا بشيء يدلُّ على ذلك. أما قبولهم كـ”بشر، وإنسان” كما فعل فخر الإنسانية صلى الله عليه وسلم، فهذا موضوع آخَر.
ولكنهم يُسنِدُون ادِّعاءاتهم إلى سفينة “ماوي مرمرة”، فعَقِبَ حوار أُجرِيَ معي سألوني كما تسألون الآن: “ما تقييمكم للموضوع؟”، قلت: “حبَّذا لو استُخدِمَت الدبلوماسيةُ إلى حدِّها الأخير ولم يُلجَأْ إلى العنف، لأن ذلك سيؤدِّي إلى مشكلات اجتماعية ومضاعفات أخرى”. لا أدري كيف رَفَعَت الجريدة كلماتي إلى المانشيت، فكانت التفسيرات في تركيا مختلفة، أي كأنني وقفتُ إلى جانب آخرين ضد إخوتنا وإنساننا. ولكن لا، إنما أبديتُ قناعتي تلك حتى لا تحدث مشكلات أخرى. ولو حدث الشيء نفسه اليوم لأبديت نفس الملاحظات. في رأيي ينبغي أن تُستَخدَم الديبلوماسية حتى النهاية، وينبغي أن لا يُدفَع الناسُ إلى الجبهة لتُسفَك دماؤهم وتُزهَق أرواحُهم. هذا ما أردتُ أن أقوله حينئذٍ، وأعتقد أن إلصاق تلك التهمة مرتبط بموقفنا ذاك.
س: أَوَدُّ أن أسألكم سؤالاً آخر لكي تزيدوا من توضيح أفكاركم المتعلقة بالمشكلة الكردية. قلتم إنكم سبقتم في التحرُّكِ في حل المشكلة الكردية وفتحتم مدارس هناك، ولكن لم يُعِر المسؤولون الموضوعَ اهتمامًا في تلك الأيام. ولكن رغم ذلك في ما بعد، لا سيما في السنوات الخمس الأخيرة، أُسنِدَ إليكم بعض العمليات، مثل التحقيقات الأُولَى حول اتحاد التجمُّعات الكردية، وتسريب مفاوضات أوسلو الثانية، ثم العملية التي استهدفت جهاز الاستخبارات التركية في 7 فبراير 2012. وقد أعربتم في حوار لكم عن حقّ الأكراد في استخدام اللغة الكردية. ما ترفضونه هل هو المفاوضات الجارية مع التنظيم (الإرهابي – حزب العمال الكردستاني)؟
ج: يمكن التفاوض مع التنظيم (حزب العمال الكردستاني)، لا نرى في ذلك بأسًا، لكن بشرط الحفاظ على مكانة الدولة ووقارها، وإلا فسيأتي التاريخ غدًا فيقول عن المفاوضين: “هذه هي البِنْيَة الموازية”، أي التقيتموهم، فأنتم تعاملتم مع “الدولة الموازية”. ولا أعلِّق على ذلك، فقد قالوا عن الرجل (عبد الله أوجلان) قاتل الأطفال، وإرهابيّ، ثم عندما اعتقلَته الدولة اعتقلَته بوصفه إرهابيًّا، وأتت به إلى تركيا. ومحاكم تلك الأيام حكمت عليه بالسجن، ولم تكُن الحكومة الحاليَّة موجودة آنذاك، الحكومة السابقة سجنَته.
نحن لم يكُن لدينا تحرُّكات ضدَّهم، ولكن هؤلاء يتصرّفون ضدّنا، لا سيما في هذه الأيام. والحكومة الحاليَّة في تركيا أعتقد أنها لكي تضمن مستقبلها في المنطقة تحاول أن تستدرج أبناء المنطقة إلى جانبها، فتُظهِر تعاطُفًا وتعاوُنًا معهم، وتسعى إلى أن يدفعَ الفاتورةَ ما سمَّوْه “الجماعة” أو “الجامعة” أو “الحركة”.
أنا لم أُدْلِ بأي تصريح في هذا الأمر، لكنهم أعلنوه إرهابيًّا في وقتٍ ما، وحكموا عليه بالسجن المؤبد، بل نُوقِشَت مسألة إعدامه في وقت ما. ولكن بسبب الموقف الصارم للاتحاد الأوربي حول الإعدام لم ينفِّذوا ذلك الحكم، حتى إن حزب الحركة القومية احتجَّ على ذلك، وحزب العدالة والتنمية كان موقفه مماثلاً لموقف حزب الحركة القومية. ولكن في ما بعد تَغَيَّر موقفهم، لماذا؟ لا أدري. هل لكي يُظهِروا تعاطفهم مع أهل المنطقة لاستثمار ذلك في الانتخابات؟ إذا قلتُ ذلك فسأكون أسأتُ الظنّ.
انزعجوا من بسط الرعاية على أهل المنطقة
الحقيقة أن الجمهورية التركية أُمَّة واحدة بكُرْدِها وتُرْكِها ولازها وشركسها وأبخازها، كلهم أهل الأناضول، وكثيرًا ما نستخدم هذا التعبير. وهذا المفهوم في غاية الأهمية في أدبياتنا، لأنه يعبِّر عن وَحدَتنا وتآلُفنا. لم نعارض مفاوضات أوسلو قَطّ، ولا اللقاء مع رجل حزب العمال الكردستاني الموجود في الجزيرة (عبد الله أوجلان)، ولا المفاوضات مع ميليشيات الجبل. وسبق أن قلت في حوار أُجرِيَ مع هذا الفقير قبل فترة وجيزة إن “الصلح هو الأصل.. التوافق هو الأساس”. والذين يحترمون هذه الأفكار ربما يمثلون 80 بالمئة من أبناء المنطقة الشرقية. أما الذين يرفضون هذه الأفكار فهم ميليشيات الجبل، وكذلك مَن تأثَّروا من إيران، وتأثروا من النظام السوري. هؤلاء فقط ينزعجون من هذه الأفكار، أي إن جمال بايك ينزعج، وفهمان حسين ينزعج، والميليشيات التابعة لمنظمة بيجاك في إيران ينزعجون. ما سبب الانزعاج؟ هو ما يُقال دائمًا، أي “تريدون أن تمحوا الهوية الكردية”، بينما بيَّنتُ وشجَّعتُ مرارا ونصحتُ مَن جاء ليلقاني من المعنيين بأن تُقدَّم دروس كردية في التليفزيون وأن تؤسَّس قناة تليفزيونية تخاطبهم. وكذلك أن تُدَرَّس اللغة الكردية في المدارس لغةً اختياريةً، وأن تُدَرَّس أيضًا في الجامعات. إن جميع هذه الأفكار المعقولة والضرورية للمنطقة نحن مَن اقترحها، ولو أردنا جمعها فربما شكَّلَت مجلَّدًا كاملاً. ولكن لا أدري سبب تشويه سُمعة الحركة وشيطنتها لدى أهل المنطقة. لقد استهدفَتنا مجموعة إعلامية منحازة، ورُوِّجَ أن “الخدمة” ضدَّ عملية السلام.
لا شكّ أن أوجلان كان مستاءً من الخدمات التي نقدِّمها لمواطنينا الأكراد في المنطقة، أي كانوا مستائين من تأسيسنا مدارس التقوية والمراكز الثقافية، لأنها تقطع الطريق أمام الذهاب إلى الجبال، كانوا مستائين لأننا نساعد هؤلاء الفقراء، وميليشيات الجبال كانوا منزعجين كذلك، وميليشيات أكراد سوريا، وعناصر حزب الاتحاد الديمقراطي السوري كذلك كانوا منزعجين، وميليشيات بيجاك في إيران كانوا مستائين. يطمعون في أن لا ينقطع طريق الصعود إلى الجبال، لذلك ينزعجون من كل شيء يؤدِّي إلى توحيد الأُمَّة وتأسيس الأُخُوَّة والتوافق بين الأتراك والأكراد. يرغبون في أن يبقى الحقد والكراهية ضدَّ الأتراك مشتعلاً في القلوب، ولا يريدون وقوع شيء يمهِّد للسلام والتآلف أبدًا.
س: لو أنكم كنتم في تركيا أيام الانتخابات فهل تصوِّتون لحزب العدالة والتنمية، أو لو رَشَّح أردوغان نفسه لرئاسة الجمهورية فهل تصوِّتون له؟
ج: لم يُكتَب لي التصويت إلا مرة واحدة طوال حياتي، لأنني كنت إمَّا في السجن، وإمَّا مطارَدًا، وإما محرومًا من استخدام حقوقي الشخصية، لذلك صوَّتُّ مرة واحدة فقط. في ذلك الوقت رشَّح المرحوم تورغوط أوزال نفسه لعضوية البرلمان من محافظة إزمير، وكان وقتذاك منتميًا إلى حزب نجم الدين أربكان. يشار توناكور كذلك كان شخصية مهمة حينئذ، وقد كان مُفتِيًا في مدينة أدرنة عندما عملتُ إمامًا فيها. وكلاهما كان قد تَرَشَّح لعضوية البرلمان من إزمير. في تلك الانتخابات صوَّتُّ، صوَّتُّ لهما، بعد ذلك لم يكُن التصويت من نصيبي مرة أخرى. ولكنني لم أكُن ضدَّ الانتخابات أو التصويت قط. ولم أقصد مقاطعتها مُطلَقًا، بل إن ذلك حقّ ديمقراطي، وأحب للجميع أن يمارس هذا الحق.
واليوم، خلافًا لِمَا فعلتُ في الاستفتاء الأخير، لا أفكِّر في أن أقول شيئًا. مسألة الاستفتاء كانت قضية أخرى، ولكن إن كان لا بد من قول شيء فسأقول: “أيّدوا من سيقف وقفة رجولة في الدفاع عن الحقّ والحقوق والالتزام بهما، أيّدوا من كان صادقًا قويمًا، أيّدوا من كان موقِّرا للديمقراطية، أيّدوا من يحسن التعامل مع الجوار”، لو كنتُ قائلاً شيئًا، فهذا ما سأقوله، ولكن هل أقول أم لا أقول؟ سأفكِّر في ذلك، بمعنى: صوِّتوا لمن يحمل هذه الأوصاف. أما تعيين حزب ما باسمه، فإني أَعُدّ ذلك إهانة منِّي لفَراسة الناس وكَياستهم وعقولهم ومنطقهم. الجميع يرى كل شيء بوضوح. لذلك لا يمكن أن أُكرِه أحدًا على أن يختار أحدًا بعينه.
س: تتحدثون عن حوار الأديان على مستوى العالَم، بينما في تركيا هوة واسعة بين السُّنَّة والعلويين، وأعتقد أن حديثكم عن مشروع “المسجد مع دار الجمع” يعود إلى سنة 1995، ولكن عندما نُفِّذَ المشروع عبَّر بعض العلويين عن مخاوفهم من التعرُّض لموجة قوية من ذوبان الهُوِيَّة. كيف يمكن أن تجيبوا عن مخاوف العلويين تلك؟
ج: أعتقد أنه ليس كل العلويين يفكرون كذلك، بل يُبدِي بعضهم تقديرَه لهذ المبادرة، لا سيما بعض العلويين المعروفين في تركيا، مثل البروفيسير عز الدين دوغان. معرفتنا تعود إلى سنوات عديدة، والتقينا مِرارًا. ذهبت إلى بيته لزيارته، وهو كذلك جاء لزيارتي. وقلنا في ما بيننا في ذلك الوقت إن مشروعا كهذا سيواجه مشكلات بلا شكّ. لقد آمنَّا بأن هذه المبادرة مهمة جدًّا لتأسيس الوحدة والتآلف بيننا وبين إخواننا العلويين، وقد نكون مخطئين، فالإنسان قد يخطئ في أي شيء، لكن كثيرين رحَّبوا بالمشروع وأيَّدوا المبادرة.
نعم، تَحَدَّثَ البعضُ عن ذوبان الهُوِيَّة، ولكن كان هؤلاء ممَّن لا يعرفون سيِّدنا عليًّا أصلاً، ويُدْعَون في الغالب “علويين بلا عليّ”، أي إن سيدنا عليًّا -حسب اعتقادهم- بطل رمزي فقط، قد ثار على بعض الأمور، لذلك يستحقّ التقدير والاحترام. أما موضوع “كان عليٌّ مسلمًا، وكانت أفكاره كذا وكذا” فيقولون “هذه قضايا لا تهمُّنا أصلاً”. المعارضون في الغالب كانوا من هذا النوع. أعتقد أنه سيأتي يوم يندم فيه هؤلاء كذلك على معارضتهم. لماذا؟ لأن مبادرة “المسجد مع دار الجمع” لم تنطلق لاستيعاب أحد أو محو هُوِيَّته. ولكن الواقع أنه منذ سنوات لُقِّنَ أهل السُّنَّة بعضَ المخاوف، مثل: “سيأتي العلويون ويأكلونكم مثل آكلي لحوم البشر”، وكذلك قيل للعلويين: “سيأكلكم أهل السُّنَّة مثل آكلي لحوم البشر”. ولما مارست الدولةُ التركية عليهم بعض أعمال القمع في سنتَي 1938 و1939، لا سيما في أحداث درسيم، تسبب ذلك في جروح غائرة، وأدَّى إلى تبنِّي هؤلاء هذه الأقوالَ والأفكارَ الزائفة.
الزمان سيُرِينا أُخُوَّة أهل السُّنَّة والعلويين
في هذا المشروع، من أراد أن يذهب إلى المسجد ليصلِّي يفعل، ومن أراد أن يذهب إلى دار الجمع ليقيم مراسم السماح يفعل كذلك. وعندما يخرجون سيلتقون في مكان مشترَك، ويأكلون الطعام معًا، ويشربون الشاي، ويجلسون معًا، فيرى الجميع أنهم لم يأكل بعضهم بعضًا. إذن فالأكل المتبادَل أصبح من المسلَّمات اللاشعورية، بحيث يراه الناس في أحلامهم، ويحلمون به في قيامهم وقعودهم. ما مدى صحة تلك المخاوف؟ الزمان سيرينا ذلك.
فضلاً عن أن مبادرة من هذا النوع، أي “المسجد مع دار الجمع”، قد تَمَّت في تركيا قبل 20 سنة، والإعلام نشر ذلك، أي إن الموضوع ليس جديدًا أو مُحدَثًا، لكنه تحوّل إلى مادة إعلامية، ولعل ذلك كان لصالح المشروع، ومن ثم يمكن إنشاء مشروع آخر مماثل له، فإذا كان هذا في أنقرة فيمكن التفكير في تنفيذه في إزمير، وفي إسطنبول كذلك. وبالتأكيد سوف يفكِّر البعض في إقامته في أماكن يعيش فيها إخواننا العلويون بكثرة. وسوف تُمنَح لهم الإمكانيات التي مُنِحَت لمؤسَّسة الشؤون الدينية، أي سيأتي مشايخهم ويشرفون على العمل وتُوضَع لهم رواتب، فيمارسون قيمهم وعاداتهم ويمثلونها هناك. وكذلك يمثِّل أهل السُّنَّة قيمهم، فقد استهدفت المبادرة تأسيس هذه الأُخُوَّة على أرض الواقع، ولا يحمل أحد فكرة استيعاب أو إذابة أحد.
إضافة إلى ذلك، بما أن العلوي متعاطف مع سيِّدنا عليّ ومُحِبٌّ له، فقد سعى الفرس مِرارًا إلى استغلال هذا المدخل، فذهبوا بالناس من تركيا إل قُمْ، ومَن عاد إلى تركيا عاد يحمل في قلبه عداءً للمجتمع التركي، بينما الفرق شاسع بين العلوي في الأناضول وشيعة إيران. فالعلويون في تركيا يحترمون تقاليدنا التي تعود إلى أكثر من ألف عام. كما أن لهم مراسم وطقوسًا خاصة بهم تشبه مراسم السماع لدى مولانا جلال الدين الرومي، وينبغي أن لا ننظر إلى هذه الفروق كأنها أسباب للنزاع، بل ينبغي احترامها. أما الأوهام والهواجس المثارة فالزمان سيُثبِت لنا مدى صحتها. الزمان سيثبت لنا أنه لا أحد منا يهدف قطعًا إلى محو هُوِيَّة آخَرَ.
س: هناك ادِّعاءات تتعلق بعدم شفافية حركة “الخدمة” في أهدافها. لمزيد من التوضيح، ما رؤيتكم حول تركيا؟ وإذا أردنا التركيز على تركيا بالتحديد، فما المشكلات العاجلة لتركيا؟ وماذا تقترحون لحلها؟
ج: لعلَّ المشكلات الأكثر عَجَلة هي الموضوعات التي ما زالت تحافظ على أهميتها حتى الآن، مثل النزاعات والخلافات والتفرقة. ولقد تَطرَّق إلى النقاط ذاتها ذلك الإنسان العظيم (بديع الزمان سعيد النورسي) في أيام المشروطية (السلطنة البرلمانية – 1908). إننا نعاني من ثلاثة أمراض: الأول أفكار خلافية لا تستند إلى معنى معقول أو منطقي، ولا تعتمد على أرضية قويمة، ولكنها تُثِير الناس ليأكل بعضهم بعضًا. هذا مرض ينبغي إزالته. فإذا كانت إزالته ستتمُّ عن طريق مبادرات مثل “المسجد مع دار الجمع” فعليكم أن تفعلوا ذلك، وإذا كانت إزالته في النزاع التركي الكردي ستتم من خلال أنشطة التربية والتعليم، ومن خلال فعاليات أخرى تنقذهم من أيدي مَن يريدون أن يمزِّقوا تركيا ويقسِّموها فستفعلون ذلك.
ثم إشكالية الفقر.. هذه الإشكالية أيضًا ذُكرَت في أيام أواخر العهد العثماني، وينبغي إزالتها، فهي مرض آخر. ثم هناك إشكالية الجهل. إذن هي ثلاثة أمراض أكّد ذلك الرجل العظيم (النورسي) ضرورة إعلان الحرب ضدَّها منذ ذلك الوقت. وأعتقد أن الوضع اليوم لا يختلف عمَّا كان عليه سابقًا. نزاعات، وجهل، المشكلات نفسها، والفقر، توجد فئات تُهضَم حقوقها، ومن ثَم ينبغي تقويم ذلك وتلافيه.
لا يَنقُص نور الشمعة إذا أشعلتَ أخرى
أمَّا اليوم، فيمكن استخدام أساليب ومناهج مختلفة حسب اختلاف الأوضاع وتغيُّر الظروف. في ذلك الوقت لم يكُن ليخطر على البال تأسيس مدارس تقوية ومراكز ثقافية ومؤسسات أخرى، فالأصل أن يُنظَر إلى ظروف اليوم وما تقتضيه الحاجة، ثم أن يُسعَى في ذلك الاتجاه. أما هذا الفقير فدوري لا يعدو أن يكون تشجيعًا. مثلاً عندما تَفكَّكَت روسيا (سنة 1989)، وجدنا أن في أسيا الوسطى كثيرين من أبناء أمتنا، فجذورنا تعود إلى هناك، فقد جاء بعضنا من أوزبكستان وبعضنا من تركمانستان، وهكذا، فقلنا نشمل هؤلاء الناس برعايتنا. في البداية ذهب ربما خمسة رجال أو عشَرة، ثم تَحوَّل ذلك إلى طريق مسلوكة، فذهب على أثرهم آخرون، ثم آخرون، ثم أعقب ذلك هجرات إلى أنحاء العالم كله يحملون مشاعل المحبة. وبإذن الله وعنايته، وعلى غرار ما يقول مولانا جلال الدين الرومي، لا يَنقُص نور الشمعة إذا أشعلتَ شمعة أخرى، أي إذا كنا نملك قِيَمًا طيبة تفيد الآخرين فلنأخذها إليهم، وإذا كان لديهم قِيَم طيبة فلنأخذها منهم، فبابنا مفتوح للأخذ والعطاء. فرَحَّب بهذه الفكرة كثيرون ممن ينتمون إلى اتجاهات فكرية شتَّى. وجدوها معقولة، ووجدوها منسجمة مع المنطق، حتى إنه تَطوَّع كثيرون وتَقدَّموا بمقترَحات باهرة عجيبة. بعضهم قال: “سأُسهِم ببناء جامعة”، وبعضهم قال: “سأبني مدرسة”، وهكذا سارت الأمور.
س: بعض الشخصيات سواء من حركة “الخدمة” أو من الطرف الآخر أفاد بأن التوتُّر السائد لن يخِفَّ حتى انتخابات رئاسة الجمهورية، ولن يسود الصلح حتى ذلك الوقت، من ثَم كيف ترَون المستقبل القريب لتركيا و”الخدمة”؟
ج: من الصعب إخماد نار التصعيد وروح الحقد والكراهية التي أثيرت في فترة قصيرة. فقد جُرحَت كرامة بعض الأبرياء وأُهِينَت شخصياتهم. لا يمكن إزالة آثارها دفعة واحدة. يصعب أن تعيدوا كل شيء إلى ما كان عليه سابقًا من انسجام وتناغُم. لكنني لم أفقد الأمل أبدًا، لذلك أومن بأن ذلك يمكن مرة أخرى. تلك الرسالة، الرسالة الأخيرة، كانت تصبُّ في ذلك الاتجاه، وقد أرسلتها مع صديق ابتعثه رئيس الجمهورية، هو السيد فهمي (كورو)، الذي أعرفه منذ أيام دراسته الأولى، وأنتم تعرفونه أيضًا. هم رَحَّبُوا بالرسالة، وكذلك سيادة رئيس الجمهورية رحَّب بها. لكن لا أدري هل اختيار رئيس الجمهورية مخاطَبًا أزعج السيد رئيس الوزراء، أم أزعجته الدعوة إلى توقُّف الأطراف عن سَبّ بعضهم بعضًا وتوقُّف التشاتُم عبر وسائل الإعلام! لا أدري. وقد تحدّث رئيس الوزراء عن ذلك صراحةً، تَحدَّثَ في لقاء، فأعتقد أن في جواره بطانةً هُمايونية (سلطانية)، وقد كان هذا العنوان يُطلَق على بطانة السلطان. أحسب أن بطانته تنقل إليه المسائل بصورة أخرى. فأنا حاشاي أن أصف أحدًا باختلال التوازن أو الجنون. لا يمكن لقلبي أو وجداني أو لساني أن يتفوه بشيء من هذا النوع أبدًا، ولكن أحسب أنهم (بطانته) يوجِّهونه إلى ما يثيره ويستفزه.
عندنا حلم ولن نتخلف عن السعي إلى تحقيقه
لكنني لم أفقد إيماني بأن هذه العواصف ستهدأ بإذن الله وعنايته. سنلتزم بالصمت إذا اقتضى الأمر. حتى إننا يمكن أن نفتح الطريق إلى أبعدَ من ذلك: في العام الماضي ذكروا 140 دولة فُتحت فيها مدارس، أي أقيمت معها جسور الصداقة وصلة المحبة. ورأينا ذلك في أوليمبياد اللغة التركة بصورة باهرة. ولا أحد يرفض هذه الخدمات، بل يقولون إنها رائعة. فإذا رغِبوا (الحكومة) في ذلك، يمكنهم حتى إغلاق تلك المدارس. إذا أرادت الدولة فيمكنها أن تغلقها، بل لِتغلقْها. ما سأنصحهم به فقط هو ألا تغلقوها، بل خذوها واعتنوا بها، وإذا أردتم فاسحبوا المدرِّسين الحاليين منها.
سبق أن قلت الشيء نفسه لـ”جويك بير” (جنرال)، كما أرسلت إلى المسؤولين الذين يحكمون اليوم أخبارًا مماثلة مِرارًا. قلت لهم: “عَيِّنوا أنتم مديريها ومدرِّسيها إذا أردتم”، فهذه المدارس رمز انفتاح تركيا على العالم، وقد سبق لأُمَّتنا في عهود مختلفة أن انطلقت في مثل هذه المبادرات لكي تنشر القيم الإنسانية النبيلة، وهذه واحدة من تلك المبادرات، حتى إن الدولة العثمانية لم تُوفَّق إلى القيام بمثل هذا الإنجاز رغم اتساع رقعة حمايتها التي غطت نحو 200 مليون نسمة. ها قد نشأ أفراد في أكثر من 160 بلدًا يفعلون ما تفعله السفارات وممثلو الدول، وكذلك وصل بعضهم إلى مواقع مهمَّة، وربما ذكّرناهم بحكمة بليغة، وهي: “إنكم ما لم تكونوا في كل مكان في العالَم، فلا يمكنكم أن تكونوا في المكان الذي ترغبون أن تكونوا فيه”. هذه قضايا في غاية الأهمية، لا سيما في عالَم العولمة اليوم. فلا تغلقوا هذه المدارس بدافع الغيرة والحسد، أو لأن البعض ينسبها إلى فلان أو عِلّان، بل اشملوها برعايتكم؛ أي خذوها، لتكن لكم، عيِّنوا أنتم المدرِّس والمدير، ولتواصل نشاطها. فكما أن العساكر و”جويك بير” لم يعودوا بجواب إيجابي قبل نحو 17 سنة، لم يعُد هؤلاء الآن بجواب إيجابيّ. فنحن منفتحون للخيارات كافةً. هذه الخدمات واجب ينبغي القيام به إكرامًا للمعنى الإنساني، وأيًّا كان القائم بها، فمرحبًا به. هذه خدمة طيِّبة نثر بذورَها الأولى هؤلاء الإخوةُ والمُحِبُّون والمتعاطفون. وهي هي رؤيتنا، لم تتغير: “انثر البذور أنت، ثم اذهب، ودع أيًّا كان يقطف ثمارها، أيًّا كان يجني الثمرة. هذه هي فلسفتنا. لا نحمل سوى غاية واحدة، و”مفكورة” واحدة، القيام بما ينبغي لإقامة علاقات طيبة بين أُمَّتنا والبشرية كافة. ومفهوم “المفكورة” أدخله في أدبياتنا “ضياء كوك ألب”، وسماه آخَر “غاية الخيال”، وأُطلق عليه بالفرنسية “إديآل” أي “الغاية السامية”. ولن نتخلف عن السير نحو هذه “الغاية الحلم”، سنواصل السعي قُدُمًا، إكرامًا لأُمَّتنا وإكرامًا للإنسانية.
ج: كل ما هو خطأ يزعجنا، ولكن ليس من الصحيح التسليم بأن جميع مَن تَعرَّضوا للتصفية ومن نُقِلوا إلى مواقع أخرى هم من الجماعة. أحسب أن بين هؤلاء الرجال يساريين وديمقراطيين ووطنيين وقوميين. وليس بمقدرونا أن نرفع إعلانات للناس نقول لهم فيها “حذار ثم حذار.. إياكم أن تتعاطفوا معنا، إياكم أن تحبوا خدمتنا وحركتنا”، لسنا مكلَّفين بذلك، ومن الطبيعي أن يشعر بعضهم بتعاطف. كما قلت من قبل، لا أعرف واحدا في الألف من هؤلاء الذين شتَّتُوهم في الشرق والغرب، ولا أبالغ في ذلك، لأن الله سيحاسبني على ما أقول.
ولكن في ما بعد قد يظهر ذلك جليًّا، هؤلاء الناس، وكلاء النيابة، القضاة، رجال الأمن، عندما يطالبون بالعودة إلى مواقعهم لعلّهم يكشفون عن حقيقة انتماءاتهم، فيقول بعضهم مثلاً: “أنا أنسان في التيار الفلاني، أو أفكر في الاتجاه الفلاني”. عندئذ لن نخجل نحن، ولكن البعض سيخجل حتمًا. في الوضع الراهن احترق الأخضر واليابس، كما يقول المثل التركي. وأعتقد أن المسؤولين أنفسهم عندما يقفون أمام ضمائرهم وجهًا لوجه، سيحاسبون أنفسهم على ذلك.
س: هل تشاركون الرأي القائل بأن هذه الفترة هي أصعب فترة مرت على “الخدمة” طوال 50 سنة من تاريخها؟ وهل ترون تشابُهًا بين ما تعيشونه وما عاشه سعيد النورسي سابقًا في عهد حكم الحزب الواحد؟
ج: عندما لا تتحركون وَفْقًا لتصوراتهم ومشاعرهم يَعُدُّون ذلك جريمة، وما نعيشه قد يكون نتيجة خطأٍ ارتكبناه. أما أنا فقناعتي الشخصية أن ما نعيشه اليوم عقاب من الله لنا. ذكرتم بديع الزمان، فهو يقول: “الآن أدركتُ حكمةَ الأذى والتعذيب الذي تَعرَّضتُ له منذ سنوات. جريمتي أنا أنني استعملتُ الخدمة الإيمانية أداةً لارتقائي المادِّيّ والمعنويّ”. بينما كان ينبغي أن أبتغي وجه الله فحسب، وأتحرَّى الإخلاص في ما أقوم به. ما أفعله يجب أن يُفِيد الإنسانية، ينبغي أن تجد الإنسانية فائدة لها في ما أفعل. فلو نذر الإنسان نفسه للدين بُغْيَة التحليق في الهواء والمشي على الماء، فإن ذلك مناقض للإخلاص، ومن ثَمَّ يستحقُّ عقاب الله.
وجاء في آية كريمة: “ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك”. فنحن نقول إننا ملتزمون بالسير على صراط مستقيم، ونؤكِّد أننا سائرون في سبيل الناذرين أنفسَهُم لله، ولكن لأننا لم نتصرف بما يليق بتصرُّفاتِ من نذروا أنفسهم لله حقًّا، فلربما ينبهنا الله بهذه اللطمات. ولكن لا يعني هذا أن تصرُّفات الآخرين صحيحة، فالله سيحاسبهم كذلك على ما فعلوا.
س: كيف تقيِّمون فضائح الفساد في تركيا والتطوُّرات التي واكبت تلك القضايا؟
ج: لست أدرى من أين أبدأ، لكن يبدو أن فسادًا قد وقع. الجميع يؤكِّد ذلك. الخواصُّ والعوامُّ كما كان يقول القدماء، أي بدءًا من عامة الناس حتى المثقَّفين والنُّخَب، الجميعُ تقريبًا يرى حقيقة المسألة ويعرفها، ولا يمكن لأحد أن يغيِّر الحقيقة. ولكن يبدو أنه كان في باطنهم (الحزب الحاكم) انزعاج، انزعاج من الجماعة، فتَذَرّعوا بفضائح الفساد للحسم في أمرها. ولكن كان الضحيةَ القضاةُ ووكلاءُ النيابة الذين أجْرَوا هذه التحقيقات، فدفعوا الثمن بأن شُتِّتوا ذات اليمن وذات الشِّمال. وهؤلاء الناس عندما يعودون إلى مواقعهم، غالبا سيُفصِحون عن اتجاهاتهم. وسيرى الجميع أن من بين هؤلاء القضاة ووكلاء النيابة والشرطة مَن هو قوميٌّ، ومَن هو مِن حزب الحركة القومية، وأن بعضهم من القوميين العلمانيين. ولكن أرادوا أن يضخِّموا المسألة ويزيدوها غموضًا، فادَّعَوا أن هؤلاء دولة بديلة أو دولة موازية تَسرَّبوا في بعض المواقع ونَفَذُوا إلى بعض الأماكن بالكامل، وادَّعَوا أن هؤلاء (الذين شردوهم) متجانسون في ما بينهم ويحملون نفس الأفكار ونفس العواطف. أعتقد أنهم انتهزوا هذه الفرصة واستغَلُّوا هذه الفضائح للبَتّ في أمرٍ كانوا يُخْفُونه في باطنهم من زمان، فلجَؤوا إلى المبالغة والتضخيم، وأرادوا أن يشحَذُوا قواعدهم الشعبية بمناورة حاسمة من هذا القبيل، وبالأخَصِّ مع ظهور فرصة فريدة كهذه.
ومَن يدري؟ لعلهم يشعرون بالندم يومًا ويبكون على تصرُّفهم هذا ويعبِّرون عن ندمهم وأسفهم، لأننا سبق أن تَعرَّضنا لتجارِب مريرةٍ مماثلة انتهت بالندم، إذ أرسل إلينا مئات من الناس إيميلات قالول لنا فيها: “سامحونا، فقد ظلمناكم”. حدث هذا في أيام سلطة العسكر وفي عهود أخرى حينما أراد بعض القوى الغاشمة أن يفرض وصايته على الجميع. تَكرَّر ذلك في فترات عديدة من دورة التاريخ، لا سيما في التاريخ القريب. وسيندم بعض هؤلاء ويسعى لتصحيح ما قاله اليوم. بَيد أن المسألة في هذه الأيام سائرة في الاتجاه المعروف، لا سيما في وجود إعلام منحاز للحزب، وأقلام مناصرة تحرِّف بعض المسائل وتموِّه الحقيقة.
انتهاكات للديمقراطية وانتهاكات للقانون
وقتها كنت هنا (في أمريكا)، وسُمِّيَت بعاصفة حزيران، كانت سنة 1999. وسائلُ الإعلام حينئذٍ فعلَت نفس ما تفعله اليوم، والمحاكمة استمرَّت ما يقرب من 8 سنوات، ثم انتهت ببراءتنا. ومحكمة التمييز صدَّقَت على الحكم. وقد ألَّف أحد الباحثين الأكاديميين من هنا (من أمريكا) كتابًا حول مسار تلك القضية والمحكمة، حتى إنه سجّل في كتابه عديدًا من الأحداث التي نسيتها شخصيًّا، أي إننا عشنا مثل هذه المكابدات مِرارًا، واليوم نعيش واحدة من تلك المآسي. ويبدو أنها ستتكرر في ما بعد كذلك، لكن هذه الأحداث -في رأيي- تُعرِّض تركيا لخسائر كبيرة، وستنعكس آثارها على نظرة أمريكا والاتحاد الأوربي إلينا بصورة سلبية، لأن الأخطاء التي تُرتَكَب مناقضة للديمقراطية، ومناقضة للقضاء والقانون، وذلك أمر يتفق عليه الجميع تقريبًا في هذه الأيام.
ولكن هل يمكن تقويم ما اعوَجّ بشكل سريع؟ هل تعود الأمور إلى نصابها من جديد؟ نعم، إذا كان الإنصاف سيد الموقف. هذا الفقير لم أتفوَّه بأي كلمة حتى من باب الدفاع عن النفس، لا سيما وأنني كنت مريضًا بعض الشيء. وأنا مُصِرٌّ على أن لا أقولَ شيئًا في هذا الموضوع. ولعلّ بعض الأصدقاء يكتفي بنشر بعض التوضيحات والتصحيحات والتكذيبات فقط. فالذين يُنظَر إليهم على أنهم جزء من هذا الخير أبدَوْا بعض التصريحات، لكنني لم أُعرِب عن أي فكرة حول الموضوع ولم أعلِّق بشيء، وسوف أبقى كذلك. أجل، لن أقول شيئًا بعد اليوم.
س: رئيس الوزراء ليس وحده من يتَّهم حركتكم بتشكيل “دولة موازية”، تقول جهات أخرى الشيء نفسه، كما يقولون إنه لا يمكن أن تنطلق أي ملاحقة فساد ما لم تصدروا أوامر بذلك.
ج: وسائل الإعلام تناقلت خبرًا عن أنهم (الحكومة) كانوا على علم بالمسألة مُسبَقًا. المخابرات الوطنية سبق أن أخبرتهم بذلك قبل 8 أشهر. المخابرات مؤسَّسة تابعة للسيد رئيس الوزراء، وسبق أن أخبرَته بذلك. إذن توجَد متابعات، وتوجد تحرِّيَات، وقد نفّذ المسؤولون العملية وَفقًا لِمَا يفعلونه في العادة. بهذه المناسبة اسمحوا لي أن أشرح لكم مسألة: حدَّثَنا أحد أصدقائنا قبل أيام قال: “كنت أسير بسيارتي في الشارع، فتوقفت في الضوء الأحمر، فجاءت سيارة شرطة كانت تسير بسرعة زائدة فصدمت سيارتي من الوارء، فجاءني الشرطي يضايقني، وصرخ في وجهي قائلاً «لماذا توقفت؟ أنت سبب الحادثة»، قلت له لا أعرف قانونًا ألغى وجوب التوقُّف في الضوء الأحمر، لذلك توقفت، معذرة إن كنت أخطأت”.
محاولات لإظهار الرشوة على أنها شيء عادي
المعروف أن الرشوة والتهريب والالتماس والوساطة وإدخال الفساد في المناقصات جرائم في حد ذاتها، ومن ثَم عندما رأى رجال القضاء والأمن -المنتمون إلى اتجاهات فكرية شتَّى- هذه الانتهاكات تَحرَّكُوا وَفْق القانون فقبضوا على المجرمين، لكن من أين لهم أن يعلموا أن هذه الانتهاكات لم تعُدْ جرائم؟! ولأنهم لم يعلموا ذلك تَورَّطُوا في هذا الخطأ.
يبدو أن تحقيقات الفساد أزعجتهم (الحكومة)، لذلك اختزلوا الموضوع في الترويج لتهمة “الدولة الموازية”، بينما الواقع في الأصل أنها سلسلة من المساوئ مثل فضائح الرشوة وإدخال الفساد في المناقصات، لكن لا أحد يتحدث عن ذلك أبدًا، بل كأنها مسائل عادية، أو هكذا يُراد لها أن تكون. لا يمكن أن يحصل هؤلاء الرجال على أوامر منِّي. فما إن حصلت تحقيقات في مدينة ما حتى بادروا إلى التدخل فورًا والتضييق على الشرطة ووكلاء النيابة والقضاة، وأقالوهم ورموا بهم بعيدًا. وقد سبق أن فعلوا بهؤلاء الرجال نفس الشيء قبل فترة. هؤلاء في الأصل كوادر أتَوْا بهم هم أنفسهم. وأعتقد أن الموظفين الجُدُدَ لو فعلوا شيئًا مماثلاً فسيُقِيلُونهم فورًا ويأتون بآخرين بدلاً منهم. أعتقد أن هناك فوضى من هذا النوع اليوم. من ثَم فلا علاقة لي بالموضوع قطعًا، وكما قلت في مناسبات عديدة، أنا لا أعرف ولا واحدًا في الألف شخص ممن أجْرَوا عمليات التحقيق تلك، وأؤكِّد ذلك بكل وضوح واطمئنان.
س: لقد ذكرتم مِرارًا رغبتكم في إبعاد حركتكم عن السياسية ما أمكن، وقد أصبحت الحركة الآن في مركز النقاشات السياسية، هل شعرتم بالندم من ذلك؟
ج: لم أشعر بأي ندم قَطّ، ولا أنتقد القدَر أبدًا. وإذا خطر على بالي أيُّ نقد للقدر أعود فأستغفر ربي. وكما قلت قبل قليل، إن الله يعاقبُنا بأيدي آخرين لأننا لم ننجح في توثيق ارتباطنا مع الله بالمستوى المطلوب. وتُقال عبارة على أنها حديث نبوي: “الظالم سيف الله، ينتقم به، ثم ينتقم منه”. المسألة ليست مسألة ندم، ولكن أن ننتهز هذه الفرصة لكي نواجه أنفسنا. يُروَى عن سيدنا عمر (رضي الله عنه) أنه قال: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا”، أنا أنظر إلى المسألة من هذه الزواية. هذا لا يعني في المقابل أن جميع ما فعله هؤلاء الإخوة (في الحكومة) كان صائبًا مئة بالمئة.
س: لقد دعمتم حكومة حزب العدالة والتنمية في جزء كبير من حكمها وعلى أصعدة شتى وفي أرضيات مشترَكة عديدة، ولكن البعض يرى أنكم في ما بعد تنازعتم بسبب خلافات حدثت بينكم في مرحلة حلّ الأزمة الكردية، وكذلك موضوع سفينة “ماوي مرمرة”، وما أعقب ذلك من تدهوُر العلاقات مع إسرائيل، فما تعليقكم؟
ج: لم نكُن في خطّ واحد بالكامل مع أي حزب سياسي في أي وقت من الأوقات… مهما كان ذلك الحزب.. وقد يكون هذا حزب الحركة القومية، أو حزب الشعب الجمهوري، أو حزب العدالة والتنمية، أو حزب الطريق القويم، أو حزب الوطن الأم. علمًا بأن الحزبين الأخيرين لا يوجَدان اليوم. لقد اعتبرنا تأييد الإجراءات الصحيحة التي أنجزتها هذه الأحزاب واجبًا إنسانيًّا. بناء على ذلك في أثناء استفتاء (2010) أدليتُ بكلمات لم يسبق أن قلتُها حتى ذلك اليوم. قلت إنه تفتُّح ديمقراطي، استفتاء من أجل الديمقراطية، وعلى الجميع أن يقول “نعم” للتغيير، أي إن مجلس القضاء الأعلى والمدَّعِين العموميين ينبغي أن يتشكل وفق إطار ديمقراطي.
أجل، لكن لم أكُن أقول تلك العبارات لأول مرة، بل قبل 20 عامًا سبق أن قلت “الديمقراطية مرحلة ينبغي أن لا نرجع عنها”، فثاروا في وجهي وأقاموا قيامة أيضًا، هؤلاء الذين يكتبون اليوم ضدِّي، فاحتجُّوا قائلين: “ما معنى هذا الكلام؟ وهل من صلة بين الإسلام والديمقراطية؟” ولكن في ما بعد قالوا أكثر مما قلت، وذهبوا في ذلك بعيدًا، وقالوا إنه يمكن التفكير في أنماط أخرى كذلك.
من ثم فتشابُه المواقف لا يعني أننا في خط واحد.، ولكن إذا رأينا أنهم يمثِّلون في إجراءاتهم جزءًا من المعقولية، المعقولية من الناحية الحقوقية، والمعقولية من الناحية الديمقراطية، والمعقولية من ناحية خدمة الأُمَّة، والإيجابية في بناء علاقات طيبة مع دول الجوار، فقد نبدو متشاركين معهم في هذه المواقف، وقد نظهر معًا في نفس الصورة.
أما الأصل، فإنه لم يكُن لنا أي صلة مع أي حزب سياسي ما عدا التصويت في الانتخابات. ولكن ربما تعاطَفَ معهم رجلان فطلبوهما هم أنفسهم ليشاركا في الحزب، فوقع ذلك، لكن ذلك لا يتجاوز اثنين حتى اليوم، وإلا فلو أردنا لوجَّهْنا آخرين في ذلك الاتجاه، ولشكَّلُوا العمود الفقري لذلك الحزب، ولكانت هناك أصوات أخرى، لكننا لم نرغب في ذلك قَطّ.
سبق أن قدّمنا مقترَحَات لحلّ المشلكة الكردية
أما عن المسألة الكردية، فقد دعمنا عملية السلام قبل الحكومة بزمن طويل. ما يقوم به هذا الفقير مجرَّد تشجيع. سبق أن قدمت لهم مقترَحات مكتوبة من قبل، قلتُ فيها إنه يجب بسْط أجنحة الرعاية على المنطقة (جنوبي شرقي تركيا). يجب رعاية المنطقة على الصعيد التربوي والصعيد الصحي والصعيد الديني وعلى مستوى الأئمَّة والمؤذِّنين، وعلى صعيد جهاز الأمن… إلخ. عليكم أن تشملوهم برعايتكم، لأن الناس هناك تَعرَّضوا لمظالم كثيرة، بادِرُوا، وإلا فسيضخِّمون المشكاكل هناك، ويورِّثونها الأجيال القادمة. ولكن للأسف لم يُولِ أيٌّ منهم الموضوع اهتمامًا.
ولعلَّه مضى على ذلك أكثر من عشر سنوات، فنحن قدَّمنا مقترحاتنا قبلهم بكثير، وعندما لم يسعوا إلى فعل شيء، شجع هذا الفقير الإخوة والأصدقاء والمحبين والمتعاطفين، على العمل، فلا أدري بالتحديد ماذا فعلوا، ولكن أسَّسوا مدارس عديدة ومعاهد كثيرة لإعداد الطلاب للجامعات والثانويات، وحاولوا أن يقطعوا طريق الصعود إلى الجبال عبر إقامة أنشطة تربوية. هذا ما حدث فعلاً.
ولكن الغريب أنهم لجؤوا إلى تشويه سمعتنا وروَّجوا أننا ضدَّ عملية السلام. كلاَّ، أبدًا، ولكن مقاربتنا لحل المسألة كانت مختلفة، فنحن ارتأينا أن يكون الحلّ من خلال التربية والتعليم، ومن خلال تأسيس روح التوافق والاتفاق، وكذلك من خلال الاستثمارات الاقتصادية التي تساعد على إزالة الفقر في المنطقة. وسارت الأنشطة في ذلك الاتجاه بالفعل. ولم تقتصر هذه الأعمال على الداخل التركي، بل انتقلت إلى شمال العراق كذلك، والإخوة أقاموا هنالك نفس الخدمات. أنا لم أذهب ولم أرَ المنجزات شخصيًّا، ولكن ما تمَّ هناك عمل ملحميّ بحقّ.
حقيقة الأمر أن افتراءاتٍ تُلصَق بالحركة، وتَحدُث تجاوزات واعتداءات، ورغم ذلك فالصواب الذي آمنَّا به وارتأيناه هو أن نقف كما وقف مولانا جلال الدين الرومي، إذ كانت إحدى رِجْلَيْنا في قلب عالَمنا الفكري وصُلْب ثوابتنا وغايتنا السامية، والرِّجْل الأخرى فتحناها للأنسانية كافةً واحتضَنَّا الجميع. هذه هي الفلسفة التي نؤمن بها. هذا خُلُقنا وهذه هي رؤيتنا إزاء الجميع، جميع الناس.
من يعرفْ هذا الفقيرَ عن قُرب يعلَمْ ذلك يقينًا. في ما بعد جاءت الدولة لتتبنَّى الفكرة، ولكن ليس هذا فقط، بل التقينا مِرارًا جماعات الأرثوذكس والأرمن، الذين هُمِّشُوا وأُقْصُوا في تركيا، فجلسنا على المائدة نفسها وأكلنا من الطبق نفسه. بإذن الله ولطفه، باب التواصُل ذاك فتحه لأول مرة في تركيا إخواننا وأصدقاؤنا وأحباؤنا.
لو وقعت “ماوي مرمرة اليوم” لأبديت الموقف نفسه
يتحدثون عن بعض المسائل المتعلقة بإسرائيل أو مشروع الشرق الأوسط الكبير، إلخ، ربما التقينا الحاخام في وقت ما، والتقينا “بينتو” رئيس وقف الخمسمئة عام في إسطنبول وقتها، وإسحاق ألاتون، وهو رجل صادق أثنى على الفعاليات التي تنفِّذها الحركة خارج تركيا، وتَصَدَّى أحيانًا لبعض المشكلات هنا، وما فعل ذلك إلا بمشاعرَ إنسانية بحتة. هذا هو كل ما في الأمر، وأعتقد أنه ليس من حقِّ أحد أن يقول كلمة عن علاقة صغيرة كهذه. أما إظهار الحركة كأنها موالية لإسرائيل، وكأنها تفضِّل إسرائيل على أُمَّتِها، فلا يمكن أن يأتوا بشيء يدلُّ على ذلك. أما قبولهم كـ”بشر، وإنسان” كما فعل فخر الإنسانية صلى الله عليه وسلم، فهذا موضوع آخَر.
ولكنهم يُسنِدُون ادِّعاءاتهم إلى سفينة “ماوي مرمرة”، فعَقِبَ حوار أُجرِيَ معي سألوني كما تسألون الآن: “ما تقييمكم للموضوع؟”، قلت: “حبَّذا لو استُخدِمَت الدبلوماسيةُ إلى حدِّها الأخير ولم يُلجَأْ إلى العنف، لأن ذلك سيؤدِّي إلى مشكلات اجتماعية ومضاعفات أخرى”. لا أدري كيف رَفَعَت الجريدة كلماتي إلى المانشيت، فكانت التفسيرات في تركيا مختلفة، أي كأنني وقفتُ إلى جانب آخرين ضد إخوتنا وإنساننا. ولكن لا، إنما أبديتُ قناعتي تلك حتى لا تحدث مشكلات أخرى. ولو حدث الشيء نفسه اليوم لأبديت نفس الملاحظات. في رأيي ينبغي أن تُستَخدَم الديبلوماسية حتى النهاية، وينبغي أن لا يُدفَع الناسُ إلى الجبهة لتُسفَك دماؤهم وتُزهَق أرواحُهم. هذا ما أردتُ أن أقوله حينئذٍ، وأعتقد أن إلصاق تلك التهمة مرتبط بموقفنا ذاك.
س: أَوَدُّ أن أسألكم سؤالاً آخر لكي تزيدوا من توضيح أفكاركم المتعلقة بالمشكلة الكردية. قلتم إنكم سبقتم في التحرُّكِ في حل المشكلة الكردية وفتحتم مدارس هناك، ولكن لم يُعِر المسؤولون الموضوعَ اهتمامًا في تلك الأيام. ولكن رغم ذلك في ما بعد، لا سيما في السنوات الخمس الأخيرة، أُسنِدَ إليكم بعض العمليات، مثل التحقيقات الأُولَى حول اتحاد التجمُّعات الكردية، وتسريب مفاوضات أوسلو الثانية، ثم العملية التي استهدفت جهاز الاستخبارات التركية في 7 فبراير 2012. وقد أعربتم في حوار لكم عن حقّ الأكراد في استخدام اللغة الكردية. ما ترفضونه هل هو المفاوضات الجارية مع التنظيم (الإرهابي – حزب العمال الكردستاني)؟
ج: يمكن التفاوض مع التنظيم (حزب العمال الكردستاني)، لا نرى في ذلك بأسًا، لكن بشرط الحفاظ على مكانة الدولة ووقارها، وإلا فسيأتي التاريخ غدًا فيقول عن المفاوضين: “هذه هي البِنْيَة الموازية”، أي التقيتموهم، فأنتم تعاملتم مع “الدولة الموازية”. ولا أعلِّق على ذلك، فقد قالوا عن الرجل (عبد الله أوجلان) قاتل الأطفال، وإرهابيّ، ثم عندما اعتقلَته الدولة اعتقلَته بوصفه إرهابيًّا، وأتت به إلى تركيا. ومحاكم تلك الأيام حكمت عليه بالسجن، ولم تكُن الحكومة الحاليَّة موجودة آنذاك، الحكومة السابقة سجنَته.
نحن لم يكُن لدينا تحرُّكات ضدَّهم، ولكن هؤلاء يتصرّفون ضدّنا، لا سيما في هذه الأيام. والحكومة الحاليَّة في تركيا أعتقد أنها لكي تضمن مستقبلها في المنطقة تحاول أن تستدرج أبناء المنطقة إلى جانبها، فتُظهِر تعاطُفًا وتعاوُنًا معهم، وتسعى إلى أن يدفعَ الفاتورةَ ما سمَّوْه “الجماعة” أو “الجامعة” أو “الحركة”.
أنا لم أُدْلِ بأي تصريح في هذا الأمر، لكنهم أعلنوه إرهابيًّا في وقتٍ ما، وحكموا عليه بالسجن المؤبد، بل نُوقِشَت مسألة إعدامه في وقت ما. ولكن بسبب الموقف الصارم للاتحاد الأوربي حول الإعدام لم ينفِّذوا ذلك الحكم، حتى إن حزب الحركة القومية احتجَّ على ذلك، وحزب العدالة والتنمية كان موقفه مماثلاً لموقف حزب الحركة القومية. ولكن في ما بعد تَغَيَّر موقفهم، لماذا؟ لا أدري. هل لكي يُظهِروا تعاطفهم مع أهل المنطقة لاستثمار ذلك في الانتخابات؟ إذا قلتُ ذلك فسأكون أسأتُ الظنّ.
انزعجوا من بسط الرعاية على أهل المنطقة
الحقيقة أن الجمهورية التركية أُمَّة واحدة بكُرْدِها وتُرْكِها ولازها وشركسها وأبخازها، كلهم أهل الأناضول، وكثيرًا ما نستخدم هذا التعبير. وهذا المفهوم في غاية الأهمية في أدبياتنا، لأنه يعبِّر عن وَحدَتنا وتآلُفنا. لم نعارض مفاوضات أوسلو قَطّ، ولا اللقاء مع رجل حزب العمال الكردستاني الموجود في الجزيرة (عبد الله أوجلان)، ولا المفاوضات مع ميليشيات الجبل. وسبق أن قلت في حوار أُجرِيَ مع هذا الفقير قبل فترة وجيزة إن “الصلح هو الأصل.. التوافق هو الأساس”. والذين يحترمون هذه الأفكار ربما يمثلون 80 بالمئة من أبناء المنطقة الشرقية. أما الذين يرفضون هذه الأفكار فهم ميليشيات الجبل، وكذلك مَن تأثَّروا من إيران، وتأثروا من النظام السوري. هؤلاء فقط ينزعجون من هذه الأفكار، أي إن جمال بايك ينزعج، وفهمان حسين ينزعج، والميليشيات التابعة لمنظمة بيجاك في إيران ينزعجون. ما سبب الانزعاج؟ هو ما يُقال دائمًا، أي “تريدون أن تمحوا الهوية الكردية”، بينما بيَّنتُ وشجَّعتُ مرارا ونصحتُ مَن جاء ليلقاني من المعنيين بأن تُقدَّم دروس كردية في التليفزيون وأن تؤسَّس قناة تليفزيونية تخاطبهم. وكذلك أن تُدَرَّس اللغة الكردية في المدارس لغةً اختياريةً، وأن تُدَرَّس أيضًا في الجامعات. إن جميع هذه الأفكار المعقولة والضرورية للمنطقة نحن مَن اقترحها، ولو أردنا جمعها فربما شكَّلَت مجلَّدًا كاملاً. ولكن لا أدري سبب تشويه سُمعة الحركة وشيطنتها لدى أهل المنطقة. لقد استهدفَتنا مجموعة إعلامية منحازة، ورُوِّجَ أن “الخدمة” ضدَّ عملية السلام.
لا شكّ أن أوجلان كان مستاءً من الخدمات التي نقدِّمها لمواطنينا الأكراد في المنطقة، أي كانوا مستائين من تأسيسنا مدارس التقوية والمراكز الثقافية، لأنها تقطع الطريق أمام الذهاب إلى الجبال، كانوا مستائين لأننا نساعد هؤلاء الفقراء، وميليشيات الجبال كانوا منزعجين كذلك، وميليشيات أكراد سوريا، وعناصر حزب الاتحاد الديمقراطي السوري كذلك كانوا منزعجين، وميليشيات بيجاك في إيران كانوا مستائين. يطمعون في أن لا ينقطع طريق الصعود إلى الجبال، لذلك ينزعجون من كل شيء يؤدِّي إلى توحيد الأُمَّة وتأسيس الأُخُوَّة والتوافق بين الأتراك والأكراد. يرغبون في أن يبقى الحقد والكراهية ضدَّ الأتراك مشتعلاً في القلوب، ولا يريدون وقوع شيء يمهِّد للسلام والتآلف أبدًا.
س: لو أنكم كنتم في تركيا أيام الانتخابات فهل تصوِّتون لحزب العدالة والتنمية، أو لو رَشَّح أردوغان نفسه لرئاسة الجمهورية فهل تصوِّتون له؟
ج: لم يُكتَب لي التصويت إلا مرة واحدة طوال حياتي، لأنني كنت إمَّا في السجن، وإمَّا مطارَدًا، وإما محرومًا من استخدام حقوقي الشخصية، لذلك صوَّتُّ مرة واحدة فقط. في ذلك الوقت رشَّح المرحوم تورغوط أوزال نفسه لعضوية البرلمان من محافظة إزمير، وكان وقتذاك منتميًا إلى حزب نجم الدين أربكان. يشار توناكور كذلك كان شخصية مهمة حينئذ، وقد كان مُفتِيًا في مدينة أدرنة عندما عملتُ إمامًا فيها. وكلاهما كان قد تَرَشَّح لعضوية البرلمان من إزمير. في تلك الانتخابات صوَّتُّ، صوَّتُّ لهما، بعد ذلك لم يكُن التصويت من نصيبي مرة أخرى. ولكنني لم أكُن ضدَّ الانتخابات أو التصويت قط. ولم أقصد مقاطعتها مُطلَقًا، بل إن ذلك حقّ ديمقراطي، وأحب للجميع أن يمارس هذا الحق.
واليوم، خلافًا لِمَا فعلتُ في الاستفتاء الأخير، لا أفكِّر في أن أقول شيئًا. مسألة الاستفتاء كانت قضية أخرى، ولكن إن كان لا بد من قول شيء فسأقول: “أيّدوا من سيقف وقفة رجولة في الدفاع عن الحقّ والحقوق والالتزام بهما، أيّدوا من كان صادقًا قويمًا، أيّدوا من كان موقِّرا للديمقراطية، أيّدوا من يحسن التعامل مع الجوار”، لو كنتُ قائلاً شيئًا، فهذا ما سأقوله، ولكن هل أقول أم لا أقول؟ سأفكِّر في ذلك، بمعنى: صوِّتوا لمن يحمل هذه الأوصاف. أما تعيين حزب ما باسمه، فإني أَعُدّ ذلك إهانة منِّي لفَراسة الناس وكَياستهم وعقولهم ومنطقهم. الجميع يرى كل شيء بوضوح. لذلك لا يمكن أن أُكرِه أحدًا على أن يختار أحدًا بعينه.
س: تتحدثون عن حوار الأديان على مستوى العالَم، بينما في تركيا هوة واسعة بين السُّنَّة والعلويين، وأعتقد أن حديثكم عن مشروع “المسجد مع دار الجمع” يعود إلى سنة 1995، ولكن عندما نُفِّذَ المشروع عبَّر بعض العلويين عن مخاوفهم من التعرُّض لموجة قوية من ذوبان الهُوِيَّة. كيف يمكن أن تجيبوا عن مخاوف العلويين تلك؟
ج: أعتقد أنه ليس كل العلويين يفكرون كذلك، بل يُبدِي بعضهم تقديرَه لهذ المبادرة، لا سيما بعض العلويين المعروفين في تركيا، مثل البروفيسير عز الدين دوغان. معرفتنا تعود إلى سنوات عديدة، والتقينا مِرارًا. ذهبت إلى بيته لزيارته، وهو كذلك جاء لزيارتي. وقلنا في ما بيننا في ذلك الوقت إن مشروعا كهذا سيواجه مشكلات بلا شكّ. لقد آمنَّا بأن هذه المبادرة مهمة جدًّا لتأسيس الوحدة والتآلف بيننا وبين إخواننا العلويين، وقد نكون مخطئين، فالإنسان قد يخطئ في أي شيء، لكن كثيرين رحَّبوا بالمشروع وأيَّدوا المبادرة.
نعم، تَحَدَّثَ البعضُ عن ذوبان الهُوِيَّة، ولكن كان هؤلاء ممَّن لا يعرفون سيِّدنا عليًّا أصلاً، ويُدْعَون في الغالب “علويين بلا عليّ”، أي إن سيدنا عليًّا -حسب اعتقادهم- بطل رمزي فقط، قد ثار على بعض الأمور، لذلك يستحقّ التقدير والاحترام. أما موضوع “كان عليٌّ مسلمًا، وكانت أفكاره كذا وكذا” فيقولون “هذه قضايا لا تهمُّنا أصلاً”. المعارضون في الغالب كانوا من هذا النوع. أعتقد أنه سيأتي يوم يندم فيه هؤلاء كذلك على معارضتهم. لماذا؟ لأن مبادرة “المسجد مع دار الجمع” لم تنطلق لاستيعاب أحد أو محو هُوِيَّته. ولكن الواقع أنه منذ سنوات لُقِّنَ أهل السُّنَّة بعضَ المخاوف، مثل: “سيأتي العلويون ويأكلونكم مثل آكلي لحوم البشر”، وكذلك قيل للعلويين: “سيأكلكم أهل السُّنَّة مثل آكلي لحوم البشر”. ولما مارست الدولةُ التركية عليهم بعض أعمال القمع في سنتَي 1938 و1939، لا سيما في أحداث درسيم، تسبب ذلك في جروح غائرة، وأدَّى إلى تبنِّي هؤلاء هذه الأقوالَ والأفكارَ الزائفة.
الزمان سيُرِينا أُخُوَّة أهل السُّنَّة والعلويين
في هذا المشروع، من أراد أن يذهب إلى المسجد ليصلِّي يفعل، ومن أراد أن يذهب إلى دار الجمع ليقيم مراسم السماح يفعل كذلك. وعندما يخرجون سيلتقون في مكان مشترَك، ويأكلون الطعام معًا، ويشربون الشاي، ويجلسون معًا، فيرى الجميع أنهم لم يأكل بعضهم بعضًا. إذن فالأكل المتبادَل أصبح من المسلَّمات اللاشعورية، بحيث يراه الناس في أحلامهم، ويحلمون به في قيامهم وقعودهم. ما مدى صحة تلك المخاوف؟ الزمان سيرينا ذلك.
فضلاً عن أن مبادرة من هذا النوع، أي “المسجد مع دار الجمع”، قد تَمَّت في تركيا قبل 20 سنة، والإعلام نشر ذلك، أي إن الموضوع ليس جديدًا أو مُحدَثًا، لكنه تحوّل إلى مادة إعلامية، ولعل ذلك كان لصالح المشروع، ومن ثم يمكن إنشاء مشروع آخر مماثل له، فإذا كان هذا في أنقرة فيمكن التفكير في تنفيذه في إزمير، وفي إسطنبول كذلك. وبالتأكيد سوف يفكِّر البعض في إقامته في أماكن يعيش فيها إخواننا العلويون بكثرة. وسوف تُمنَح لهم الإمكانيات التي مُنِحَت لمؤسَّسة الشؤون الدينية، أي سيأتي مشايخهم ويشرفون على العمل وتُوضَع لهم رواتب، فيمارسون قيمهم وعاداتهم ويمثلونها هناك. وكذلك يمثِّل أهل السُّنَّة قيمهم، فقد استهدفت المبادرة تأسيس هذه الأُخُوَّة على أرض الواقع، ولا يحمل أحد فكرة استيعاب أو إذابة أحد.
إضافة إلى ذلك، بما أن العلوي متعاطف مع سيِّدنا عليّ ومُحِبٌّ له، فقد سعى الفرس مِرارًا إلى استغلال هذا المدخل، فذهبوا بالناس من تركيا إل قُمْ، ومَن عاد إلى تركيا عاد يحمل في قلبه عداءً للمجتمع التركي، بينما الفرق شاسع بين العلوي في الأناضول وشيعة إيران. فالعلويون في تركيا يحترمون تقاليدنا التي تعود إلى أكثر من ألف عام. كما أن لهم مراسم وطقوسًا خاصة بهم تشبه مراسم السماع لدى مولانا جلال الدين الرومي، وينبغي أن لا ننظر إلى هذه الفروق كأنها أسباب للنزاع، بل ينبغي احترامها. أما الأوهام والهواجس المثارة فالزمان سيُثبِت لنا مدى صحتها. الزمان سيثبت لنا أنه لا أحد منا يهدف قطعًا إلى محو هُوِيَّة آخَرَ.
س: هناك ادِّعاءات تتعلق بعدم شفافية حركة “الخدمة” في أهدافها. لمزيد من التوضيح، ما رؤيتكم حول تركيا؟ وإذا أردنا التركيز على تركيا بالتحديد، فما المشكلات العاجلة لتركيا؟ وماذا تقترحون لحلها؟
ج: لعلَّ المشكلات الأكثر عَجَلة هي الموضوعات التي ما زالت تحافظ على أهميتها حتى الآن، مثل النزاعات والخلافات والتفرقة. ولقد تَطرَّق إلى النقاط ذاتها ذلك الإنسان العظيم (بديع الزمان سعيد النورسي) في أيام المشروطية (السلطنة البرلمانية – 1908). إننا نعاني من ثلاثة أمراض: الأول أفكار خلافية لا تستند إلى معنى معقول أو منطقي، ولا تعتمد على أرضية قويمة، ولكنها تُثِير الناس ليأكل بعضهم بعضًا. هذا مرض ينبغي إزالته. فإذا كانت إزالته ستتمُّ عن طريق مبادرات مثل “المسجد مع دار الجمع” فعليكم أن تفعلوا ذلك، وإذا كانت إزالته في النزاع التركي الكردي ستتم من خلال أنشطة التربية والتعليم، ومن خلال فعاليات أخرى تنقذهم من أيدي مَن يريدون أن يمزِّقوا تركيا ويقسِّموها فستفعلون ذلك.
ثم إشكالية الفقر.. هذه الإشكالية أيضًا ذُكرَت في أيام أواخر العهد العثماني، وينبغي إزالتها، فهي مرض آخر. ثم هناك إشكالية الجهل. إذن هي ثلاثة أمراض أكّد ذلك الرجل العظيم (النورسي) ضرورة إعلان الحرب ضدَّها منذ ذلك الوقت. وأعتقد أن الوضع اليوم لا يختلف عمَّا كان عليه سابقًا. نزاعات، وجهل، المشكلات نفسها، والفقر، توجد فئات تُهضَم حقوقها، ومن ثَم ينبغي تقويم ذلك وتلافيه.
لا يَنقُص نور الشمعة إذا أشعلتَ أخرى
أمَّا اليوم، فيمكن استخدام أساليب ومناهج مختلفة حسب اختلاف الأوضاع وتغيُّر الظروف. في ذلك الوقت لم يكُن ليخطر على البال تأسيس مدارس تقوية ومراكز ثقافية ومؤسسات أخرى، فالأصل أن يُنظَر إلى ظروف اليوم وما تقتضيه الحاجة، ثم أن يُسعَى في ذلك الاتجاه. أما هذا الفقير فدوري لا يعدو أن يكون تشجيعًا. مثلاً عندما تَفكَّكَت روسيا (سنة 1989)، وجدنا أن في أسيا الوسطى كثيرين من أبناء أمتنا، فجذورنا تعود إلى هناك، فقد جاء بعضنا من أوزبكستان وبعضنا من تركمانستان، وهكذا، فقلنا نشمل هؤلاء الناس برعايتنا. في البداية ذهب ربما خمسة رجال أو عشَرة، ثم تَحوَّل ذلك إلى طريق مسلوكة، فذهب على أثرهم آخرون، ثم آخرون، ثم أعقب ذلك هجرات إلى أنحاء العالم كله يحملون مشاعل المحبة. وبإذن الله وعنايته، وعلى غرار ما يقول مولانا جلال الدين الرومي، لا يَنقُص نور الشمعة إذا أشعلتَ شمعة أخرى، أي إذا كنا نملك قِيَمًا طيبة تفيد الآخرين فلنأخذها إليهم، وإذا كان لديهم قِيَم طيبة فلنأخذها منهم، فبابنا مفتوح للأخذ والعطاء. فرَحَّب بهذه الفكرة كثيرون ممن ينتمون إلى اتجاهات فكرية شتَّى. وجدوها معقولة، ووجدوها منسجمة مع المنطق، حتى إنه تَطوَّع كثيرون وتَقدَّموا بمقترَحات باهرة عجيبة. بعضهم قال: “سأُسهِم ببناء جامعة”، وبعضهم قال: “سأبني مدرسة”، وهكذا سارت الأمور.
س: بعض الشخصيات سواء من حركة “الخدمة” أو من الطرف الآخر أفاد بأن التوتُّر السائد لن يخِفَّ حتى انتخابات رئاسة الجمهورية، ولن يسود الصلح حتى ذلك الوقت، من ثَم كيف ترَون المستقبل القريب لتركيا و”الخدمة”؟
ج: من الصعب إخماد نار التصعيد وروح الحقد والكراهية التي أثيرت في فترة قصيرة. فقد جُرحَت كرامة بعض الأبرياء وأُهِينَت شخصياتهم. لا يمكن إزالة آثارها دفعة واحدة. يصعب أن تعيدوا كل شيء إلى ما كان عليه سابقًا من انسجام وتناغُم. لكنني لم أفقد الأمل أبدًا، لذلك أومن بأن ذلك يمكن مرة أخرى. تلك الرسالة، الرسالة الأخيرة، كانت تصبُّ في ذلك الاتجاه، وقد أرسلتها مع صديق ابتعثه رئيس الجمهورية، هو السيد فهمي (كورو)، الذي أعرفه منذ أيام دراسته الأولى، وأنتم تعرفونه أيضًا. هم رَحَّبُوا بالرسالة، وكذلك سيادة رئيس الجمهورية رحَّب بها. لكن لا أدري هل اختيار رئيس الجمهورية مخاطَبًا أزعج السيد رئيس الوزراء، أم أزعجته الدعوة إلى توقُّف الأطراف عن سَبّ بعضهم بعضًا وتوقُّف التشاتُم عبر وسائل الإعلام! لا أدري. وقد تحدّث رئيس الوزراء عن ذلك صراحةً، تَحدَّثَ في لقاء، فأعتقد أن في جواره بطانةً هُمايونية (سلطانية)، وقد كان هذا العنوان يُطلَق على بطانة السلطان. أحسب أن بطانته تنقل إليه المسائل بصورة أخرى. فأنا حاشاي أن أصف أحدًا باختلال التوازن أو الجنون. لا يمكن لقلبي أو وجداني أو لساني أن يتفوه بشيء من هذا النوع أبدًا، ولكن أحسب أنهم (بطانته) يوجِّهونه إلى ما يثيره ويستفزه.
عندنا حلم ولن نتخلف عن السعي إلى تحقيقه
لكنني لم أفقد إيماني بأن هذه العواصف ستهدأ بإذن الله وعنايته. سنلتزم بالصمت إذا اقتضى الأمر. حتى إننا يمكن أن نفتح الطريق إلى أبعدَ من ذلك: في العام الماضي ذكروا 140 دولة فُتحت فيها مدارس، أي أقيمت معها جسور الصداقة وصلة المحبة. ورأينا ذلك في أوليمبياد اللغة التركة بصورة باهرة. ولا أحد يرفض هذه الخدمات، بل يقولون إنها رائعة. فإذا رغِبوا (الحكومة) في ذلك، يمكنهم حتى إغلاق تلك المدارس. إذا أرادت الدولة فيمكنها أن تغلقها، بل لِتغلقْها. ما سأنصحهم به فقط هو ألا تغلقوها، بل خذوها واعتنوا بها، وإذا أردتم فاسحبوا المدرِّسين الحاليين منها.
سبق أن قلت الشيء نفسه لـ”جويك بير” (جنرال)، كما أرسلت إلى المسؤولين الذين يحكمون اليوم أخبارًا مماثلة مِرارًا. قلت لهم: “عَيِّنوا أنتم مديريها ومدرِّسيها إذا أردتم”، فهذه المدارس رمز انفتاح تركيا على العالم، وقد سبق لأُمَّتنا في عهود مختلفة أن انطلقت في مثل هذه المبادرات لكي تنشر القيم الإنسانية النبيلة، وهذه واحدة من تلك المبادرات، حتى إن الدولة العثمانية لم تُوفَّق إلى القيام بمثل هذا الإنجاز رغم اتساع رقعة حمايتها التي غطت نحو 200 مليون نسمة. ها قد نشأ أفراد في أكثر من 160 بلدًا يفعلون ما تفعله السفارات وممثلو الدول، وكذلك وصل بعضهم إلى مواقع مهمَّة، وربما ذكّرناهم بحكمة بليغة، وهي: “إنكم ما لم تكونوا في كل مكان في العالَم، فلا يمكنكم أن تكونوا في المكان الذي ترغبون أن تكونوا فيه”. هذه قضايا في غاية الأهمية، لا سيما في عالَم العولمة اليوم. فلا تغلقوا هذه المدارس بدافع الغيرة والحسد، أو لأن البعض ينسبها إلى فلان أو عِلّان، بل اشملوها برعايتكم؛ أي خذوها، لتكن لكم، عيِّنوا أنتم المدرِّس والمدير، ولتواصل نشاطها. فكما أن العساكر و”جويك بير” لم يعودوا بجواب إيجابي قبل نحو 17 سنة، لم يعُد هؤلاء الآن بجواب إيجابيّ. فنحن منفتحون للخيارات كافةً. هذه الخدمات واجب ينبغي القيام به إكرامًا للمعنى الإنساني، وأيًّا كان القائم بها، فمرحبًا به. هذه خدمة طيِّبة نثر بذورَها الأولى هؤلاء الإخوةُ والمُحِبُّون والمتعاطفون. وهي هي رؤيتنا، لم تتغير: “انثر البذور أنت، ثم اذهب، ودع أيًّا كان يقطف ثمارها، أيًّا كان يجني الثمرة. هذه هي فلسفتنا. لا نحمل سوى غاية واحدة، و”مفكورة” واحدة، القيام بما ينبغي لإقامة علاقات طيبة بين أُمَّتنا والبشرية كافة. ومفهوم “المفكورة” أدخله في أدبياتنا “ضياء كوك ألب”، وسماه آخَر “غاية الخيال”، وأُطلق عليه بالفرنسية “إديآل” أي “الغاية السامية”. ولن نتخلف عن السير نحو هذه “الغاية الحلم”، سنواصل السعي قُدُمًا، إكرامًا لأُمَّتنا وإكرامًا للإنسانية.