لا يتناول هذا الكتاب مختلف وجهات نظر الحركات الإسلامية الموجودة في العالم الإسلامي، وتحليلَ انعكاساتها وأصدائها من الناحية الثقافية والاجتماعية والسياسية، بل هو محاولة لفهم حركة معينة أصبح لها تأثير ذو صبغة عالمية. ولا يَزعم هذا الكتابُ أنه كامل من جميع الوجوه، بل هو منحصر في نطاق ضيق سواء من ناحية المعطيات أو المحتوى؛ فهو لا يرقى إلى مستوى إنشاء نظرية شاملة في هذا الصدد، بل يحاول -فقط- شرح الجذور والنتائج الاجتماعية لمفهوم "الجماعة" وما جَلَبَتْه من طريقة وأصول في نظام العلاقات في المجتمعات الإسلامية.
ولا شك أنه لبيان الجذور الاجتماعية لمفهوم "الجماعة" والنتائج التي جلبتها على مستوي المجتمع، وما أفرزته من منهجية في المجتمع لا بد من كتابةِ بحوثٍ أطول وأوسع.
لقد وقفتُ قليلاً عند مفهوم "الجماعة" في الفكر الغربي وفي المجتمعات الإسلامية، محاوِلاً وضع إطار لطريقة فهم هذا الأمر، لتوسيع زاوية النظر إلى ظاهرة "الجماعة".
وأنا أعتقد بأن التناول الديني والتناول الاجتماعي لا يكفيان لتحليل حركة التجمعات الإسلامية المعاصرة تحليلاً صحيحًا وصائبًا.. بل كلُّ فصل من فصول الكتاب يصلح لأن يكون كتابًا مستقلاًّ.
ومن أهم أسباب هذا أن محتوى علم الاجتماع قد نشأ ضمن الشروط الاجتماعية والمادية للغرب، وهذا أدّى في الحقيقة إلى مشكلة عامة في نمط فهم الغرب للإسلام كدين وكثقافة وكحضارة. فهناك فروق أساسية بين فهم الغرب للإسلام -وللأديان الأخرى-، وبين مفهوم الإسلام عند المسلمين من ناحية العقيدة ومن ناحية التطبيق، أي إن الأمر لا يقتصر على مشكلة "المنهج" و"التحليل" فقط. لذا اضطررتُ في هذا الكتاب إلى استعمال المصطلحات الدينية ومصطلحات علم الاجتماع معًا، وإن أدّى هذا إلى بعض التعقيد. فإن استطاع هذا الكتاب أن يكون له أيّ إسهام من ناحية المعلومات، ومن ناحية أسلوب التناول لدراسات أخرى أشمل وأعمق في هذا الموضوع، فإنه يكون قد أدّى مهمته وحقق غايته.
وقد تبين لي بوضوحٍ وجودُ كيل بمكيالين في جميع التحليلات الغربية التي تتناول الجماعات الإسلامية والوجودَ الاجتماعي والديني للمسلمين، وعدمُ وجود أي معيار أخلاقي في هذا الصدد. ومع أن التحليلات تبدأ بشكل موضوعي وتحت مظلة "احترام التعددية" ووجهات النظر الأخرى، إلا أنه ما إن يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي وبالجماعات الإسلامية، حتى ترى أن هذه التحليلات الغربية تفقد موضوعيتها بشكل غير مفهوم، ويتم تجاهل احترام مبدأ التعددية تجاهلاً تامًّا. وعلى الرغم من جميع ادعاءاتهم بأن تحليلاتهم موضوعية وعلمية، إلا أن تحليلاتهم الاجتماعية تعاني العديد من المشاكل الأخلاقية.
ولا تخلو الساحة -طبعًا- من تحليلات لا بأس بها يقدمها المختصون حول الجماعات الإسلامية في تركيا وفي العالم، إلا أن الكتب والتحليلات لا تَذكر كلَّ شيء، فمن الخطأ -انطلاقًا من هذه الكتب ومن هذه التحليلات- تفصيلُ ألبسة جاهزة لهذه الحركات، لأن هذه التحليلات ليست -في نهاية المطاف- إلا مشاهداتٍ منطلقةً من زاوية نظر خاصة، ولا تستطيع أن تحيط بجميع الحقائق حول الطبيعة الاجتماعية والثقافية لهذه الجماعات أو الحركات؛ فكثيرًا ما تَرجع الأخطاء في تحليل الحركات والجماعات إلى هذه النظرة، وليس إلى الجماعة أو إلى الحركة نفسها. ولهذا السبب تتم تحليلات غير مسؤولة إلى درجةِ إهمالِ الآليات الداخلية للحركة، وإهمالِ شكل تعبير الحركة عن نفسها، وكذلك الأهداف الاجتماعية التي تسعى الجماعة إلى تحقيقها.
وكما سيلاحظ القارئ، فإن هذا الكتاب ليس بكتاب في سيرة الأستاذ فتح الله كولن وحياته. والحقيقة أنه كان من الممكن أن يتم هذا البحث ضمن إطار من شرح سيرته، ولكني رأيت أنني عاجز عن تناولِ واستيعاب كافة الجوانب المتعددة لهذه الشخصية الفذة. وأنا أعتقد بأن تحليل الشخصيات أصعب من تحليل الحركات، كما أرى ضرورة قيام المختصين في موضوع تحليل الحركات بتناول شخصية الأستاذ فتح الله كولن بالتحليل، لأنها الشخصية المثالية التي ظهرت في عهد المواجهة بين الحداثة وبين الإسلام والثقافة الإسلامية، ولأنها شخصية تملك جذور تقاليد الثقافة الإسلامية النابعة من عدة عصور، ولأنها شخصية شاهدتْ وعاصرت جميعَ التغيرات الجذرية التي حدثت في العصر الحديث، ولأنها شخصية لها ماهية ثقافية واجتماعية عميقة.
وعلى الرغم من حدوث موجة من الدعايات المكثفة ضد الإسلام، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول، إلا أن الاهتمام بالإسلام وبالمسلمين وبالحركات الإسلامية قد زاد، أي إنّ تعرُّف الغرب على الإسلام تم في جو متأزم من الإرهاب والعنف. لذا نرى أن الشخصيات الإسلامية البارزة في العالم الإسلامي وأفكارَ زعمائه السياسية والاجتماعية والثقافية، ونشاطاتِهم في هذه المجالات، أصبحتْ محطَّ دراساتٍ وتحليلات عديدة.
وقد أدت الدعايات المغرضة ضد الإسلام والمسلمين إلى أمور سلبية بينهم وبين البلدان الغربية في النواحي السياسية والثقافية. والإعلامُ الغربي الآن يقدّم الإسلام كدين يتبنى العنف، حتى أصبح مفهومُ الإسلام مساويًا لمفهوم الإرهاب. وهذا ما دفع المسلمين إلى خوض حرب دفاعية عن عقائدهم. ولا شك أن العديد من المخابرات العالمية متورطة في هذا الأمر، مهما كانت اتجاهاتها الدينية والسياسية والعنصرية. والحال أنه ما من دين على وجه الكرة الأرضية يمكن أن يهبط إلى مستوى تبريرِ مثلِ هذه الأفعال اللاأخلاقية، لأنه يتعارض مع أسس الأديان وحكمة وجودها. ولا يمكن أن تصدر هذه الأفعال إلا من قبل أشخاص يتصفون بالدناءة.
إن هذه التهمة العالمية الموجهة ضد الإسلام تُعدّ من أكبر المظالم التي وُجهت إلى الإسلام في تاريخه الطويل. وعلى منتسبي الأديان الأخرى أيضًا الدفاع عنه. ويجب ألا ننسى أن وجود الإسلام -وهو الدين الأخير- ضروري جدًّا لدعم نُظُم الإيمان في مجتمعات العالم بأسره.
ولعلنا إذا نظرنا إلى موجة الدعاية المنظمة الجارية ضد الإسلام، ندرك أن الحرب الباردة لم تنته بعد، بل غيرت هدفها فقط. وأن هناك بعض القوى في العالم تقوم -حاليًّا- بتطوير مفهوم جديد تحت دعوى "صراع الحضارات".
وبتعبير أوضح؛ فإن طرفي هذا النـزاع هو الإسلام والغرب، والقسم الأعظم من المحللين السياسيين يضعون هذا النـزاع داخل إطار "النظام الجديد للعالم"، الذي تبنته الولايات المتحدة الأمريكية. سننتظر وسنرى معًا مدى صحة هذا الأمر. ولكن الذي لا نشك فيه هو أن الولايات المتحدة تسعى لزيادة تأثيرها في مجال العلاقات الدولية، بل تسعى أحيانًا إلى محاولة القيام بدور صاحب القرار الوحيد. لذا نرى زيادة في المخاوف وفي ظهور نظريات المؤامرة وتحليلات أخرى للأزمات السياسية.
لقد أصبح الإسلام مرة أخرى موضوع الساعة، لذا زادت أهمية التحليلات التي تتناول الحركات الإسلامية في الآونة الآخيرة.
هنا أود الإشارة إلى أمر مهم يتعلق بالصعوبات التي تواجه التحليلات الاجتماعية التي تتناول الجماعات الإسلامية، وهو وجود فراغ أو مسافة بين مبادئ هذه الجماعات وآلياتها الداخلية، وبين بعض تصرفاتها التي يمليها عليها الواقعُ المعيش؛ إذ تُتَّهَم هذه الجماعات بأنها تتبع سياسة "التقية"؛ فإن لم نقم بفهم صحيح للأمور، فسيؤدي هذا إلى فهمٍ مشوه لهذه الجماعات من وجوه عديدة.
ومع أن العالم الإسلامي يعاني من قاسم مشترك من المشاكل، إلا أننا سنركّز اهتمامنا في هذا البحث على تركيا.
إن تركيا بلد يعاني من مشكلة تعدد القوميات والثقافات، ولم يستطع بعدُ حلَّ المشاكل الناجمة عن هذا التعدد، على الرغم من وجود تجربة تاريخية طويلة له في هذا الصدد. وحتى البلدانُ التي تطورت فيها الديمقراطية وتكاملت، لم تستطع إحراز نجاح يذكر في مضمار التعددية. لأنه عندما يتعلق الأمر بحرية الفكر والعقيدة خاصة، نرى في هذه البلدان الديمقراطية ضعفًا واضحًا. وهذا الضعف هو أحد الصعوبات التي تواجه أيَّ بحث وتحليل للجماعات الإسلامية. وفي الديمقرطيات التي تشكو من ضعف في حرية التعبير والعقيدة تتحدد مقولات الجماعات الإسلامية وتنحصر في إطار من القوانين السائدة دون أن تستطيع الخروج عليها.
والحقيقة أن أيّ حركة تتبع الطريق نفسها، حذرًا من الخروج على قوانين البلد وعلى أيدولوجيته، وليس في هذا ما يُستغرب منه، ولكن المشكلة هنا هي: أن الأيدولوجيات الرسمية تُقدَّم وكأنها عقيدة سياسية وتَطلب من الجميع إقرارها باللسان، والإيمان بها بالقلب. وفي الديمقراطيات التي تحمل أيدولوجيات سياسية، يدخل الأشخاص في امتحانات الإخلاص للنظام من ناحية النية وخطرات القلب، ولا يتم الاكتفاء بأقوالهم المعلنة حول إخلاصهم للنظام. وهذا يعني أن النظام عندما يَسدّ بابَه في وجه بعض المدارس الفكرية وفي وجه بعض الجهات، فإنهم يتعرضون للاتهام من قبل النظام بـ"التقية" مهما كانت أقوالهم مشروعة.
ولا يقتصر وجود المشكلة على تركيا، بل تعاني جميع الأوساط الإسلامية من مثل هذه العلاقة غير الصحية والمعرضة للانكسار. ويمكن أن يتطور هذا إلى ديمقراطية يحف بها الخوف. ويجب ألا يَتناول أيُّ تحليل اجتماعي أيَّ حركة اجتماعية من منطلق مثل هذا الخوف.
وهذا لا يعني عدم القيام بالتحليل في حالة وجود فرق أو فراغ بين تحليلات الحركة الاجتماعية وبين أسسها الفكرية وآلياتها الحركية. ولكن بشرط ألا يتم القيام بهذا التحليل على أسس مطاطية وغير موضوعية مثل مفهوم "التقية". ومفهوم "التقية" مفهوم مرن جدًّا، بحيث يمكن مطّه وادعاء تطبيقه على كل حركة. ولكنه لا ينطبق ولا ينسجم مع حركة دينية، بينما نرى أن الحياة السياسية قائمة في العديد من البلدان على أسس من "التقية".
لذا فإن أي تحليل اجتماعي، يجب أن يَتناول -إضافة إلى مقولات الحركة المتوافقة مع النظام الرسمي- الأسسَ الفكرية والعقائدية للحركة ومصادرَها الثقافية مع التقاليد والآليات الداخلية التي تتبعها وتستخدمها. ولكن العديد من التحاليل لا تَتبع -مع الأسف- هذا الأسلوبَ، بل تنطلق في تفسيرها للحركة عن بعض أقوالها التي قالتها تحت خوف سيف ديموقليطس.
إن الإسلام هو المصدر الأساسي الذي يوجه دنيا الفكر والحركة للجماعات الإسلامية. والمهم هنا كيفية فهمها للإسلام وتفسيرها له وكيفية نقله إلى المجتمع، أو كيف تقوم -إلى جانب تفسيرها للأسس الإسلامية- بإنشاء الروابط والعلاقات مع القيم الاجتماعية في ظل هذه المدنية الحديثة، وكيف تتعامل مع مرحلة الثقافة العالمية ومع أصحاب وجهات النظر والآراء المختلفة. فمن ثم حاول هذا الكتاب أن يقدم أسلوب حركة الأستاذ فتح الله كولن من هذه الزاوية.
والموضوع الآخر المتعلق بهذا البحث هو قيامي بتصنيفٍ ثلاثيٍّ لحركة فتح الله كولن، التي يحسبها البعض بأنها حركة دينية صرفة. فقمت في هذا التصنيف بتناول هذه الحركة بأبعادها الثلاثة؛ الاجتماعية، والثقافية، والدينية. أي حاولتُ شرح هويتها وطابعها الاجتماعي والثقافي إلى جانب طابعِها وهويتِها الدينية.
لا شك أن لهذه الحركة طابعًا دينيًّا، ولكننا عندما ندقق بنْيتها التي اكتسبتها على النطاق العالمي في هذا الموقع الجغرافي، نرى أنها تملك أيضًا هوية اجتماعية وثقافية عالمية. وعندما قمنا بتناول ماهيتها الدينية أوضحنا الطبيعة الروحانية والإنسانية المتسمة باللين والمسامحة التي تبناها الأتراك في هذه البقعة الأرضية إبان تعرفهم على الإسلام واهتدائهم بهديه. لأن الجذور التاريخية لمشروع الحوار والمسامحة والابتعادِ عن التعصب، ترجع إلى دخول الأتراك الإسلام على يد المتصوفة. حيث كانت هذه سمة الحركات الصوفية للأتراك المسلمين في الأناضول شعارَ "توقير الخلق والإنسان". ولا شك أن الحركات الصوفية حركة واسعة النطاق وقديمة العهد تمتد إلى بدايات العصور الإسلامية. ثم إن هذه الحركات تتشكل حسب الظروف السياسية والاجتماعية في أمكنة وأزمنة مختلفة. فوجهة نظر فتح الله كولن يتلاءم مع البنية الاجتماعية والنسيج الاجتماعي الذي تَكوَّن في هذه الأراضي منذ ألف عام.
عندما قمنا بتحليل الآليات الداخلية والمعنوية لحركة فتح الله كولن رأينا أنها: "نتاج جديد لتقاليدَ إسلامية ربانية قديمة جُعلت متلائمة مع شروط المجتمع الحديث وظروفه. وحين تطرقنا إلى الحياة الروحية والمعنوية للإسلام، ذكرنا أن جوهرها ولبّها يكمن في مبادئ الزهد والتقوى والإحسان. كما أن هذه المبادئ هي الأسس المعنوية للإسلام. وقد أوضحنا أسس العلاقة المباشرة بين الزهد والتقوى وبين التصوف. ولكنا عند قيامنا بذلك لم نتطرق -طبعًا- إلى التغيرات التي أصابت هذه المفاهيم طوال التاريخ الإسلامي. وكما أننا لا نريد غض النظر عن هذه التغيرات فلا نرغب كذلك في الدخول في تحليل لغوي واصطلاحي تفصيلي لها، بل نكتفي بشرح المعاني السطحية العامة لهذه المفاهيم والإشارةِ إلى مكانتها في الأدب الإسلامي.
إن مفهوم الزهد والتقوى والإحسان موجود في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وفي المقابل فإن مفهوم التصوف ظهر بعد عدة عصور، وراح يؤدي دوره في الحياة، ثم عبَّر -وإن كان يحمل مفهومًا تنظيميًا ذا إطار معلوم- عن الحياة الروحية والمعنوية للإسلام. بينما أكّد البعض على وجوب التمييز بين الزهد والتقوى وبين التصوف. ولا أرى شخصيًّا أهمية كبيرة لمثل هذا التمييز.
والجدير بالذكر أن حركة الزهد ظهرت في العهود الإسلامية الأولى، كرد فعل روحي ضد التغيرات التي حدثت في الحياة الاجتماعية الإسلامية، نتيجة الفتوحات والاختلاط بالثقافات الأجنبية. وقد تطورت حركة التصوف كردّ فعل تجاه التبدلات السياسية والاجتماعية السلبية في المجتمع الإسلامي، وأحدثت في مدة قصيرة حياةً إسلامية تتصف بالتقشف. وقد أبدى ذلك الجيل رد فعل قوي ضد التغيرات والتحولات الاجتماعية التي ظهرت نتيجة هذا الانفتاح، بالانغماس في حياة دينية متشددة.
ولا شك أن ذلك الجيل لم يقم بتنظير التصوف ولا بتنظير تجاربه ومشاهداته، مثلما حصل في العهود التي اكتسب فيها التصوف طابع جماعة منظمة تعكس الحياة الروحية للإسلام، بل بقي التصوف لديه كمظهرِ احتجاج روحي ومعنوي ضد التغيرات والتبدلات الحاصلة في النظام الاجتماعي. بينما تطور التصوف في القرنين الرابع والخامس الهجري، ونضج كحركة فكرية وكأسلوب حياة ضمن منظمة وجماعة. وعندما تناولنا الوجه التصوفي لحركة فتح الله كولن أشرنا إلى هذا الفرق، وأكدنا بشكل واضح وصريح أن حركته هذه لم تشكل "طريقة" من الطرق الصوفية.
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أن براعة فتح الله كولن ومهارته في الخطابة ساهمت بشكل كبير في إعطاء شكل معين وسمة معينة لحركته؛ فاستطاع بقابليته الخطابية هذه جلْبَ انتباه الجماهير وإثارةَ اهتمامهم. وفي أحاديثه وخطبه يُلاحَظ أنه -بجانب كونه مفكرًا غزير العلم والمعرفة- يحرك العواطف والأحاسيس أيضًا، أي إنه خطيب يخطب على المنابر بوجدانه وقلبه كما يخطب بفكره وعقله. لذا فكما يتم تحليل مقالات فتح الله كولن ونشاطاته الثقافية الاجتماعية، يجب تحليل شخصيته من خلال ألفاظه الشفوية وأحاديثه الثقافية.
لقد كان نقل المعلومات الثقافية شفاهًا من أهم وجوه النقل والتواصل الثقافي في المجتمع الإسلامي. وقد وُجد هذا النسيج الثقافي المتلائم مع البنية الاجتماعية للإسلام طوال عصور عديدة؛ فازدهر الوعظ وتطورت الخطابة في التاريخ الإسلامي كفن أدبي، ولم يزل الوعظ يلعب دورًا مهمًّا في نقل التراث الثقافي والإسلامي من جيل إلى آخر. لذا وَجدت بداية النشاطات الاجتماعية والدينية لحركة فتح الله كولن نفسَها في إطار هذا النقل الثقافي الشفوي. فحاولتُ تحليل هذا التقليد الإسلامي، أي "تحليل تقليد الخطابة الشفوية" في القسم الأول من هذا الكتاب تحت عنوان مستقل، ثم تحليلَ دور هذه الخطابة في تشكيلِ ملامح المجتمع الإسلامي.
وتوجد آثار عميقة للخطابة الشفوية في الحياة الاجتماعية والثقافية للجماعات الإسلامية المعاصرة. وعندما ندرك التأثير الاجتماعي لثقافة الخطابة على الجماهير، ندرك السبب الكامن وراء التأثير الكبير لكلامِ وتوصياتِ ونصائحِ صانع أفكار مثل فتح الله كولن على الجماهير الواسعة.
وعلى الرغم من أن فتح الله كولن لا يتربع على قمة هرمِ منظمة بشكل فعلي وعضوي، إلا أن لأفكاره وتوصياته تأثيرا مهما على الجماهير. بيدَ أن التزام الجماهير بتوصياته وأفكاره كل الالتزام ووَضْعها ضمن المشاريع الاجتماعية، يعود إلى قابليته الخطابية هذه وإلى تأثير هذه الثقافة الشفوية العميقة والمتأصلة، في المجتمع. وعندما تغيب هذه النقطة عن الأذهان يضطر فتح الله كولن -وبإلحاح- إلى التوكيد بأن ليس له علاقة عضوية بالجماعة ومؤسساتها.
ولا نجد نظيرا لهذا التأثير الاجتماعي الجماهيري للثقافة الشفوية بهذه القوة وبهذه المساحة في الثقافات الأخرى؛ فكل الأديان تقوم على تعاضد وتضامن جماعي وتسعى لتحريك "شعور الخير المشترك" والعمل به ضمن نظام معين. لهذا فإن الدعاة المبشرين في أرجاء العالم -كما يقول طه آق يول([1])- بالمقارنة مع الموظفين الرسميين، يملكون دافعا أكبر وحماسة أقوى في نشاطهم ودعوتهم. وعندما يتحد شعور "الخير" الموجود في الإنسان مع المثل الاجتماعية للإسلام، يتحول إلى تأثير ومحرك جماهيري. وهنا تبرز الوظيفة الأهم للثقافة الشفوية.
الإسلام دين واسع المدى والأفق -بلا حدود- لذلك فهو دين عالمي. وقد توجّه الأستاذ فتح الله كولن إلى مشاعر الخير والمسامحة الثرة الكامنة داخل الإنسان التركي وحرّكها وأثارها. إن هذه التضحية للإنسان التركي مظهر من مظاهر فهمه العميق للإسلام. وهنا تكتسب رسالة فتح الله كولن أهميتها. فالشعب التركي كريم ومعطاء، وقد لاحظ فتح الله كولن عمق هذا الكرم والعطاء الموجود عند الشعب التركي. ولكن لكي لا يتم استغلال هذا الكرم استغلالاً سيّئًا فقد اعتنى فتح الله كولن عناية خاصة بتوجيه هذه العواطف والمشاعر نحو المصالح العليا للمجتمع، وحث السير ضمن هذا الإطار باستمرار وبلا توقف. وهكذا أوجد فهما جديدًا للتضحية والتساند الجماعي في المجتمع.
لقد اهتم فتح الله كولن بالعقل والفكر وتزويدهما بالعلم والحكمة والمعرفة من جهة، وبالقلب والوجدان وتقويمهما بعوامل الخير والإحسان من جهة أخرى. وهكذا نكتشف جانبين من شخصيته:
الجانب الأول: هو "علمه"، والثاني: هو "عرفانه"؛ فهو يملك معلومات واسعة في العلوم الدينية وفي الثقافة الغربية وفي الفلسفة وفي المشاكل الاجتماعية والثقافية للعالم الحديث. فمن هذه الناحية يظهر أمامنا هويته كعالم ديني وكمفكر عقلاني في جميع الساحات هذه. وهو باستنادٍ إلى مخزون معلوماته وإلى تراكم تجاربه قَدم في شخصه أنموذجا مثاليّا في أفكاره النيرة وآرائه العقلانية تجاه العالم.
أما الجانب الثاني من شخصيته -أي الجانب السلوكي والعرفاني- فهو يحتوي على معلوماته العرفانية حول الوجود والكائنات، وعلى تجاربه في هذا الخصوص. ولا شكّ أننا إن بقينا في إطار أحاسيسنا المادية وما تعكسه هذه الأحاسيس من العالم المادي، يصعب علينا فهم جانبه هذا. فلِكي نفهم جانبه المعنوي ومكتسباته في هذه الناحية، علينا أن نتجاوز الحدود المادية التي تشكل إطار فكرنا. وطالما بقينا في إطار الحدود التي رسمها العالَم المادي في أذهاننا، فلن نستطيع فهم تجربته الروحية والمعنوية الغنية. بيد أن التجربة الروحيية الإسلامية تستدعي مستوى عاليًا ومختلفًا من المعرفة والمشاعر. وسيبقى كل ما يقال في هذا الخصوص ضمن قدرة اللسان على التعبير.
وأنا أعتقد بأن هذا الجانب العرفاني العميق للأستاذ فتح الله كولن يستحق أن يكون موضوعًا لكتاب آخر، وأرى أن أي تحليل مصطلحيّ لا يستطيع التعبير بشكل كاف عن مثل هذه التجارب الروحية والمعنوية، لأنه يجب ممارسة مثل هذه التجربة الروحية والمعنوية العميقة ممارسة جيدة. وأستطيع -كخرّيجٍ من كليةِ الشريعة- ذكْرَ بعض الأمور حول مستوى علمه في العلوم الإسلامية، وقابليته في تركيب المعاني والاجتهاد والتفسير. فهذا ممكن ضمن إطار التعبير اللغوي والثقافي. ولكني لا أعتقد أنني أستطيع قول شيء يذكر حول جانبه المعنوي وحول مدى عمق هذا الجانب فيه وعمق تجربته الروحية. فهو من الناحية الشخصية مسلم عادي يعيش ضمن جو روحاني عالٍ. ويَعرف كلُّ القريبين منه بأن مَن لا يملك سعة وغنى في القلب والروح والذهن، لا يستطيع مشاركته في عالم المشاعر هذه، ولا يستطيع أن يديم علاقته به مدة طويلة. وخطابه للقريبين منه والموجودين حواليه يتضمن إيقاعًا معنويًا عميقًا. ولعل طراز حياته المتسم بالحساسية، وعلاقته بالموجودات، بل حتى علاقته الجمالية بالمكان المحيط به، يقدم صورة عن جانبه العرفاني العميق... إذن، اسمحوا لي أن أخط بعض الأسطر في شرح هذا الأمر في إطار حدودي المعرفية.
من التراث إلى الحداثة
لم أستطع تقديم تحليل وافٍ في هذا الكتاب حول شخصية فتح الله كولن، لأن الكتاب ليس محصورًا في إطار استعراض مراحل حياته، لذا فهو لا يغني في هذا الصدد. وقد كانت عندي أسبابي العديدة التي ثبطت عزمي عن استعراض مراحل حياته وتحليلها، لأن تحليل شخصية كبيرة بهذا المقياس يتجاوز قدراتي ومعلوماتي وتجاربي وقابليتي في التعبير. فما كتبته هنا هو عبارة عن ملاحظاتي المتواضعة النابعة من معرفتي به، وليس تحليلاً عميقًا لشخصيته. فما دمت لم أقم بتحليل الجوانب المتعددة لشخصيته، فلماذا إذن أُقدم هنا ملاحظات ومشاهدات متبعثرة؟.. أقوم بهذا من أجل شرح الصعوبة الموجودة في فهم الشخصيات التقليدية للعلماء الذين قاموا بنقل التراث الإسلامي من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل، ولعبوا في هذا الصدد دورًا مركزيًّا وفعّالاً.. أي شرح الماهية الروحية العميقة والاجتماعية لهم بالمصطلحات العصرية ونماذجها. فليس من السهل النفوذ إلى العالم الداخلي لهؤلاء بكل أجوائه الروحية والمعنوية، ولا إلى جو الوقار الذي يحيط بهم ويظهر في تصرفاتهم.
وأقول مرة أخرى، بأننا إن بقينا محصورين في إطار ما تُقدّمه لنا حواسنا وفكرنا المتسم بـ"العقلانية" (Rational) للعصر الحديث، فلن نستطيع النفوذ بحقٍ إلى أغوار العوالم الروحية والمعنوية لمثل هؤلاء العلماء التقليديين، ولا يمكننا فهم العلاقة العرفانية التي يؤسسونها مع الأشياء والموجودات، ولا فهمُ أحاسيسهم حول كونهم مراقَبين من قِبل الله تعالى.
إن فتح الله كولن من الشخصيات التي يصعب حقًّا تحليلها. وحسب ما أعتقد فهو من الحلقات الأخيرة لسلسلة العلماء المسلمين. ولا أقول هو الحلقة الأخيرة لأنني لم أتتبّع سلسلة معينة منهم.
إن فتح الله كولن هو صورة للتراث الإسلامي في العصر الحديث. [ولم أصادف شخصيًا في حياتي إنسانًا آخر يملك هذا المستوى الرفيع من المعرفة ومراقبة النفس في كل شأن من الشؤون.. لا محل للفوضى في حياته؛ فهو يعيش بنظام الساعة ودقّتها. فكأنه اتخذ من النظام المدهش السائد في الكون أساسًا لحياته. ويمكن مشاهدة هذا الأمر في جميع شؤونه بدءًا من أبسط حركاته، ووصولاً إلى قيامه بتخطيط الكثير من الفعاليات والأنشطة. فكأننا أمام عقل يعمل بإيقاع منظم على الدوام..] وهو حساس جدًّا أمام العناصر المعنوية كحساسيته أمام العناصر المادية.. نظراته وأطواره وقورة جدًّا، وهذه النظرات تبدو وكأنها لا تلامس المظاهر الخارجية بل تنفذ إلى الأعماق.
لا يلتفت الأستاذ فتح الله كولن إلى القيم والأذواق المادية التي فتنت الناس بها ولا يعيرها اهتمامًا... إن هذه القيم والأذواق قد تكون من توابع الحياة، وأمورًا طبيعية بل ضرورية للإنسان كشخص دنيوي وكأب وزوج ورئيس عائلة. وهي تشغل حيزًا مّا في قلوبنا، وتهب نوعًا من الآمال والسعادة أو اللذائذ الدنيوية، ولكنها ليست على الإطلاق عناصر رئيسة في صراعنا وفي سبب وجودنا. فقد وُجد الإنسان على ظهر هذه الأرض لمثل وقيم عليا أسمى منها. ولو لم يكن هذا صحيحًا، فلِما يضحّي الإنسان إذن بنفسه وماله من أجل ما يعتقد أنها قيم مقدسة؟ يضحّي بنفسه من أجل الدين والوطن والأمة.. إن هذا هو ما يجعل الإنسان عظيمًا ومهمًّا.
هذه هي القيم السامية التي يدعو إليها الأستاذ فتح الله كولن؛ يدعو الجماهير إلى أمور أسمى من الأمور اليومية الصغيرة التي ينشغل بها الإنسان في حياته اليومية، وإلى القيام بخدمات أسمى وأهم، وإلى مشاعر متأججة، وإلى قيم إنسانية عليا. هذا هو لبّ نضاله وجوهرُه، أي يناضل ضد الارتخاء والارتماء في أحضان الدنيا.. إنه استصغر الدنيا وملذاتها ونذر نفسه من أجل الآخرين، مما يعني التوجه نحو الأزلية.
وهو أحد نماذج الدعاة النشطين الذين أنتجَتهم التقاليد الإسلامية ضمن عصور عدة، وأنموذج مثالي من هذه النماذج. ولا يُعدّ من هواة وضع الأيدولوجيات التي تقيم المجتمعات ثم تهدمها مثل واضعي الأيدولوجيات في العصر الحديث، الذين سعوا لهدم جميع ألوان التقاليد والأعراف، لأنهم تصرفوا بالروح الثورية الهدامة لعصر التنوير.
لم يمد الأستاذ فتح الله كولن يده إلى شرايين المجتمع ولم يعبث بشعيراته، بينما سعى جميع واضعي الأيدولوجيات لهذا العبث دون أي شعور بالمسؤولية. لذا فإنه كان ضد التمسك بهذه الأيدولوجيات.
إنه إنسان أنتجته تقاليد طويلة وعريقة، حيث نشأ في بيئة محافظة. كان قد استوعب الجو المحافظ بكل تفاصيله، وشكل منظومة فكره ونظرته إلى العالم وتفسيره له. وكان يدرك النقاط التي يجب المحافظة عليها وتفسيرها وتوسيعها. وساعدتْه على هذا معرفتُه الواسعة بالعلوم الدينية ومنظومتها الفكرية. ولكنه -كإنسان- يملك شخصية ثقافية عميقة يدرك بها أحوال العصر الذي يعيش فيه، ويملك قابلية التجديد. كان شاهدًا على هذا العصر الذي أحدث تغييرات ثقافية عميقة تجرّعت الإنسانية مرارتها. كان من أفضل المدركين للموجات والتغييرات السياسية والفكرية الجذرية وبتأثيرات الصراعات والتحزبات والانقسامات التي جلبتها.
عندما ننظر من أعتاب دنيا إدراكنا العقلي المعاصر، نرى أن فتح الله كولن يملك شخصية معنوية وفكرية قوية، قد عركته تجارب سنين طويلة في دنيا الفكر، فوقف بشكل مهيب يخاطب هذا العصر الذي ضعفت فيه الروح والفطرة السليمة، وضعف فيه الإدراك الصحيح. ولا يحس الأشخاص القريبون منه -في ظل الثقل الفكري والمعنوي له- بالراحة. لأن عليهم أن يكونوا يقظين على الدوام وفي جو روحي عميق.. ولا يمكن الولوج إلى عالمه بأحاسيسَ ومشاعرَ تميل إلى الدنيا وإلى متاعها المادي ومصالحها ومنافعها. فلكي تلج إلى عالمه عليك أن تتجاوز حدود عالمك الشخصي وتتعداه. وبالمقابل هو أيضا لا يساعدنا كثيرًا على فهمه وتحليل شخصيته بعمق، لأنه يقوم بإخفاء العديد من الأمور المتعلقة به ويسترها بسبب تواضعه الجم.
في حين أن هناك العديد من الشخصيات يَسهل كثيرًا تحليلُها، لأنها تحاول بكل ما تملك من قوة وبكل جهدها إظهارَ كل ما يتعلق بها. ولكن هذا الطريق مسدود بالنسبة للأستاذ فتح الله كولن الذي اختار حياة الوحدة وحياة العيش وراء الأستار. فهو وحيد حتى مع أقرب الموجودين حواليه. وهو -ككل صاحب دعوة- يحاول التسلق إلى أعلى الأعالي ووضعَ كل شيء في إطار من النظام. لذا نرى أن إنسان هذا العصر الغارقَ في الدنيا وفي أنانيته ومصالحه الذاتية، لا يستطيع أن يفهم -حق الفهم- مثل هذه الشخصيات التي يغلب عليها طابع الروح والمعنويات والتي هي نتاج تاريخ طويل من التقاليد.
([1]) كاتب وباحث وصحفي تركي معروف. (المترجم)
ولا شك أنه لبيان الجذور الاجتماعية لمفهوم "الجماعة" والنتائج التي جلبتها على مستوي المجتمع، وما أفرزته من منهجية في المجتمع لا بد من كتابةِ بحوثٍ أطول وأوسع.
لقد وقفتُ قليلاً عند مفهوم "الجماعة" في الفكر الغربي وفي المجتمعات الإسلامية، محاوِلاً وضع إطار لطريقة فهم هذا الأمر، لتوسيع زاوية النظر إلى ظاهرة "الجماعة".
وأنا أعتقد بأن التناول الديني والتناول الاجتماعي لا يكفيان لتحليل حركة التجمعات الإسلامية المعاصرة تحليلاً صحيحًا وصائبًا.. بل كلُّ فصل من فصول الكتاب يصلح لأن يكون كتابًا مستقلاًّ.
ومن أهم أسباب هذا أن محتوى علم الاجتماع قد نشأ ضمن الشروط الاجتماعية والمادية للغرب، وهذا أدّى في الحقيقة إلى مشكلة عامة في نمط فهم الغرب للإسلام كدين وكثقافة وكحضارة. فهناك فروق أساسية بين فهم الغرب للإسلام -وللأديان الأخرى-، وبين مفهوم الإسلام عند المسلمين من ناحية العقيدة ومن ناحية التطبيق، أي إن الأمر لا يقتصر على مشكلة "المنهج" و"التحليل" فقط. لذا اضطررتُ في هذا الكتاب إلى استعمال المصطلحات الدينية ومصطلحات علم الاجتماع معًا، وإن أدّى هذا إلى بعض التعقيد. فإن استطاع هذا الكتاب أن يكون له أيّ إسهام من ناحية المعلومات، ومن ناحية أسلوب التناول لدراسات أخرى أشمل وأعمق في هذا الموضوع، فإنه يكون قد أدّى مهمته وحقق غايته.
وقد تبين لي بوضوحٍ وجودُ كيل بمكيالين في جميع التحليلات الغربية التي تتناول الجماعات الإسلامية والوجودَ الاجتماعي والديني للمسلمين، وعدمُ وجود أي معيار أخلاقي في هذا الصدد. ومع أن التحليلات تبدأ بشكل موضوعي وتحت مظلة "احترام التعددية" ووجهات النظر الأخرى، إلا أنه ما إن يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي وبالجماعات الإسلامية، حتى ترى أن هذه التحليلات الغربية تفقد موضوعيتها بشكل غير مفهوم، ويتم تجاهل احترام مبدأ التعددية تجاهلاً تامًّا. وعلى الرغم من جميع ادعاءاتهم بأن تحليلاتهم موضوعية وعلمية، إلا أن تحليلاتهم الاجتماعية تعاني العديد من المشاكل الأخلاقية.
ولا تخلو الساحة -طبعًا- من تحليلات لا بأس بها يقدمها المختصون حول الجماعات الإسلامية في تركيا وفي العالم، إلا أن الكتب والتحليلات لا تَذكر كلَّ شيء، فمن الخطأ -انطلاقًا من هذه الكتب ومن هذه التحليلات- تفصيلُ ألبسة جاهزة لهذه الحركات، لأن هذه التحليلات ليست -في نهاية المطاف- إلا مشاهداتٍ منطلقةً من زاوية نظر خاصة، ولا تستطيع أن تحيط بجميع الحقائق حول الطبيعة الاجتماعية والثقافية لهذه الجماعات أو الحركات؛ فكثيرًا ما تَرجع الأخطاء في تحليل الحركات والجماعات إلى هذه النظرة، وليس إلى الجماعة أو إلى الحركة نفسها. ولهذا السبب تتم تحليلات غير مسؤولة إلى درجةِ إهمالِ الآليات الداخلية للحركة، وإهمالِ شكل تعبير الحركة عن نفسها، وكذلك الأهداف الاجتماعية التي تسعى الجماعة إلى تحقيقها.
وكما سيلاحظ القارئ، فإن هذا الكتاب ليس بكتاب في سيرة الأستاذ فتح الله كولن وحياته. والحقيقة أنه كان من الممكن أن يتم هذا البحث ضمن إطار من شرح سيرته، ولكني رأيت أنني عاجز عن تناولِ واستيعاب كافة الجوانب المتعددة لهذه الشخصية الفذة. وأنا أعتقد بأن تحليل الشخصيات أصعب من تحليل الحركات، كما أرى ضرورة قيام المختصين في موضوع تحليل الحركات بتناول شخصية الأستاذ فتح الله كولن بالتحليل، لأنها الشخصية المثالية التي ظهرت في عهد المواجهة بين الحداثة وبين الإسلام والثقافة الإسلامية، ولأنها شخصية تملك جذور تقاليد الثقافة الإسلامية النابعة من عدة عصور، ولأنها شخصية شاهدتْ وعاصرت جميعَ التغيرات الجذرية التي حدثت في العصر الحديث، ولأنها شخصية لها ماهية ثقافية واجتماعية عميقة.
وعلى الرغم من حدوث موجة من الدعايات المكثفة ضد الإسلام، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول، إلا أن الاهتمام بالإسلام وبالمسلمين وبالحركات الإسلامية قد زاد، أي إنّ تعرُّف الغرب على الإسلام تم في جو متأزم من الإرهاب والعنف. لذا نرى أن الشخصيات الإسلامية البارزة في العالم الإسلامي وأفكارَ زعمائه السياسية والاجتماعية والثقافية، ونشاطاتِهم في هذه المجالات، أصبحتْ محطَّ دراساتٍ وتحليلات عديدة.
وقد أدت الدعايات المغرضة ضد الإسلام والمسلمين إلى أمور سلبية بينهم وبين البلدان الغربية في النواحي السياسية والثقافية. والإعلامُ الغربي الآن يقدّم الإسلام كدين يتبنى العنف، حتى أصبح مفهومُ الإسلام مساويًا لمفهوم الإرهاب. وهذا ما دفع المسلمين إلى خوض حرب دفاعية عن عقائدهم. ولا شك أن العديد من المخابرات العالمية متورطة في هذا الأمر، مهما كانت اتجاهاتها الدينية والسياسية والعنصرية. والحال أنه ما من دين على وجه الكرة الأرضية يمكن أن يهبط إلى مستوى تبريرِ مثلِ هذه الأفعال اللاأخلاقية، لأنه يتعارض مع أسس الأديان وحكمة وجودها. ولا يمكن أن تصدر هذه الأفعال إلا من قبل أشخاص يتصفون بالدناءة.
إن هذه التهمة العالمية الموجهة ضد الإسلام تُعدّ من أكبر المظالم التي وُجهت إلى الإسلام في تاريخه الطويل. وعلى منتسبي الأديان الأخرى أيضًا الدفاع عنه. ويجب ألا ننسى أن وجود الإسلام -وهو الدين الأخير- ضروري جدًّا لدعم نُظُم الإيمان في مجتمعات العالم بأسره.
ولعلنا إذا نظرنا إلى موجة الدعاية المنظمة الجارية ضد الإسلام، ندرك أن الحرب الباردة لم تنته بعد، بل غيرت هدفها فقط. وأن هناك بعض القوى في العالم تقوم -حاليًّا- بتطوير مفهوم جديد تحت دعوى "صراع الحضارات".
وبتعبير أوضح؛ فإن طرفي هذا النـزاع هو الإسلام والغرب، والقسم الأعظم من المحللين السياسيين يضعون هذا النـزاع داخل إطار "النظام الجديد للعالم"، الذي تبنته الولايات المتحدة الأمريكية. سننتظر وسنرى معًا مدى صحة هذا الأمر. ولكن الذي لا نشك فيه هو أن الولايات المتحدة تسعى لزيادة تأثيرها في مجال العلاقات الدولية، بل تسعى أحيانًا إلى محاولة القيام بدور صاحب القرار الوحيد. لذا نرى زيادة في المخاوف وفي ظهور نظريات المؤامرة وتحليلات أخرى للأزمات السياسية.
لقد أصبح الإسلام مرة أخرى موضوع الساعة، لذا زادت أهمية التحليلات التي تتناول الحركات الإسلامية في الآونة الآخيرة.
هنا أود الإشارة إلى أمر مهم يتعلق بالصعوبات التي تواجه التحليلات الاجتماعية التي تتناول الجماعات الإسلامية، وهو وجود فراغ أو مسافة بين مبادئ هذه الجماعات وآلياتها الداخلية، وبين بعض تصرفاتها التي يمليها عليها الواقعُ المعيش؛ إذ تُتَّهَم هذه الجماعات بأنها تتبع سياسة "التقية"؛ فإن لم نقم بفهم صحيح للأمور، فسيؤدي هذا إلى فهمٍ مشوه لهذه الجماعات من وجوه عديدة.
ومع أن العالم الإسلامي يعاني من قاسم مشترك من المشاكل، إلا أننا سنركّز اهتمامنا في هذا البحث على تركيا.
إن تركيا بلد يعاني من مشكلة تعدد القوميات والثقافات، ولم يستطع بعدُ حلَّ المشاكل الناجمة عن هذا التعدد، على الرغم من وجود تجربة تاريخية طويلة له في هذا الصدد. وحتى البلدانُ التي تطورت فيها الديمقراطية وتكاملت، لم تستطع إحراز نجاح يذكر في مضمار التعددية. لأنه عندما يتعلق الأمر بحرية الفكر والعقيدة خاصة، نرى في هذه البلدان الديمقراطية ضعفًا واضحًا. وهذا الضعف هو أحد الصعوبات التي تواجه أيَّ بحث وتحليل للجماعات الإسلامية. وفي الديمقرطيات التي تشكو من ضعف في حرية التعبير والعقيدة تتحدد مقولات الجماعات الإسلامية وتنحصر في إطار من القوانين السائدة دون أن تستطيع الخروج عليها.
والحقيقة أن أيّ حركة تتبع الطريق نفسها، حذرًا من الخروج على قوانين البلد وعلى أيدولوجيته، وليس في هذا ما يُستغرب منه، ولكن المشكلة هنا هي: أن الأيدولوجيات الرسمية تُقدَّم وكأنها عقيدة سياسية وتَطلب من الجميع إقرارها باللسان، والإيمان بها بالقلب. وفي الديمقراطيات التي تحمل أيدولوجيات سياسية، يدخل الأشخاص في امتحانات الإخلاص للنظام من ناحية النية وخطرات القلب، ولا يتم الاكتفاء بأقوالهم المعلنة حول إخلاصهم للنظام. وهذا يعني أن النظام عندما يَسدّ بابَه في وجه بعض المدارس الفكرية وفي وجه بعض الجهات، فإنهم يتعرضون للاتهام من قبل النظام بـ"التقية" مهما كانت أقوالهم مشروعة.
ولا يقتصر وجود المشكلة على تركيا، بل تعاني جميع الأوساط الإسلامية من مثل هذه العلاقة غير الصحية والمعرضة للانكسار. ويمكن أن يتطور هذا إلى ديمقراطية يحف بها الخوف. ويجب ألا يَتناول أيُّ تحليل اجتماعي أيَّ حركة اجتماعية من منطلق مثل هذا الخوف.
وهذا لا يعني عدم القيام بالتحليل في حالة وجود فرق أو فراغ بين تحليلات الحركة الاجتماعية وبين أسسها الفكرية وآلياتها الحركية. ولكن بشرط ألا يتم القيام بهذا التحليل على أسس مطاطية وغير موضوعية مثل مفهوم "التقية". ومفهوم "التقية" مفهوم مرن جدًّا، بحيث يمكن مطّه وادعاء تطبيقه على كل حركة. ولكنه لا ينطبق ولا ينسجم مع حركة دينية، بينما نرى أن الحياة السياسية قائمة في العديد من البلدان على أسس من "التقية".
لذا فإن أي تحليل اجتماعي، يجب أن يَتناول -إضافة إلى مقولات الحركة المتوافقة مع النظام الرسمي- الأسسَ الفكرية والعقائدية للحركة ومصادرَها الثقافية مع التقاليد والآليات الداخلية التي تتبعها وتستخدمها. ولكن العديد من التحاليل لا تَتبع -مع الأسف- هذا الأسلوبَ، بل تنطلق في تفسيرها للحركة عن بعض أقوالها التي قالتها تحت خوف سيف ديموقليطس.
إن الإسلام هو المصدر الأساسي الذي يوجه دنيا الفكر والحركة للجماعات الإسلامية. والمهم هنا كيفية فهمها للإسلام وتفسيرها له وكيفية نقله إلى المجتمع، أو كيف تقوم -إلى جانب تفسيرها للأسس الإسلامية- بإنشاء الروابط والعلاقات مع القيم الاجتماعية في ظل هذه المدنية الحديثة، وكيف تتعامل مع مرحلة الثقافة العالمية ومع أصحاب وجهات النظر والآراء المختلفة. فمن ثم حاول هذا الكتاب أن يقدم أسلوب حركة الأستاذ فتح الله كولن من هذه الزاوية.
والموضوع الآخر المتعلق بهذا البحث هو قيامي بتصنيفٍ ثلاثيٍّ لحركة فتح الله كولن، التي يحسبها البعض بأنها حركة دينية صرفة. فقمت في هذا التصنيف بتناول هذه الحركة بأبعادها الثلاثة؛ الاجتماعية، والثقافية، والدينية. أي حاولتُ شرح هويتها وطابعها الاجتماعي والثقافي إلى جانب طابعِها وهويتِها الدينية.
لا شك أن لهذه الحركة طابعًا دينيًّا، ولكننا عندما ندقق بنْيتها التي اكتسبتها على النطاق العالمي في هذا الموقع الجغرافي، نرى أنها تملك أيضًا هوية اجتماعية وثقافية عالمية. وعندما قمنا بتناول ماهيتها الدينية أوضحنا الطبيعة الروحانية والإنسانية المتسمة باللين والمسامحة التي تبناها الأتراك في هذه البقعة الأرضية إبان تعرفهم على الإسلام واهتدائهم بهديه. لأن الجذور التاريخية لمشروع الحوار والمسامحة والابتعادِ عن التعصب، ترجع إلى دخول الأتراك الإسلام على يد المتصوفة. حيث كانت هذه سمة الحركات الصوفية للأتراك المسلمين في الأناضول شعارَ "توقير الخلق والإنسان". ولا شك أن الحركات الصوفية حركة واسعة النطاق وقديمة العهد تمتد إلى بدايات العصور الإسلامية. ثم إن هذه الحركات تتشكل حسب الظروف السياسية والاجتماعية في أمكنة وأزمنة مختلفة. فوجهة نظر فتح الله كولن يتلاءم مع البنية الاجتماعية والنسيج الاجتماعي الذي تَكوَّن في هذه الأراضي منذ ألف عام.
عندما قمنا بتحليل الآليات الداخلية والمعنوية لحركة فتح الله كولن رأينا أنها: "نتاج جديد لتقاليدَ إسلامية ربانية قديمة جُعلت متلائمة مع شروط المجتمع الحديث وظروفه. وحين تطرقنا إلى الحياة الروحية والمعنوية للإسلام، ذكرنا أن جوهرها ولبّها يكمن في مبادئ الزهد والتقوى والإحسان. كما أن هذه المبادئ هي الأسس المعنوية للإسلام. وقد أوضحنا أسس العلاقة المباشرة بين الزهد والتقوى وبين التصوف. ولكنا عند قيامنا بذلك لم نتطرق -طبعًا- إلى التغيرات التي أصابت هذه المفاهيم طوال التاريخ الإسلامي. وكما أننا لا نريد غض النظر عن هذه التغيرات فلا نرغب كذلك في الدخول في تحليل لغوي واصطلاحي تفصيلي لها، بل نكتفي بشرح المعاني السطحية العامة لهذه المفاهيم والإشارةِ إلى مكانتها في الأدب الإسلامي.
إن مفهوم الزهد والتقوى والإحسان موجود في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وفي المقابل فإن مفهوم التصوف ظهر بعد عدة عصور، وراح يؤدي دوره في الحياة، ثم عبَّر -وإن كان يحمل مفهومًا تنظيميًا ذا إطار معلوم- عن الحياة الروحية والمعنوية للإسلام. بينما أكّد البعض على وجوب التمييز بين الزهد والتقوى وبين التصوف. ولا أرى شخصيًّا أهمية كبيرة لمثل هذا التمييز.
والجدير بالذكر أن حركة الزهد ظهرت في العهود الإسلامية الأولى، كرد فعل روحي ضد التغيرات التي حدثت في الحياة الاجتماعية الإسلامية، نتيجة الفتوحات والاختلاط بالثقافات الأجنبية. وقد تطورت حركة التصوف كردّ فعل تجاه التبدلات السياسية والاجتماعية السلبية في المجتمع الإسلامي، وأحدثت في مدة قصيرة حياةً إسلامية تتصف بالتقشف. وقد أبدى ذلك الجيل رد فعل قوي ضد التغيرات والتحولات الاجتماعية التي ظهرت نتيجة هذا الانفتاح، بالانغماس في حياة دينية متشددة.
ولا شك أن ذلك الجيل لم يقم بتنظير التصوف ولا بتنظير تجاربه ومشاهداته، مثلما حصل في العهود التي اكتسب فيها التصوف طابع جماعة منظمة تعكس الحياة الروحية للإسلام، بل بقي التصوف لديه كمظهرِ احتجاج روحي ومعنوي ضد التغيرات والتبدلات الحاصلة في النظام الاجتماعي. بينما تطور التصوف في القرنين الرابع والخامس الهجري، ونضج كحركة فكرية وكأسلوب حياة ضمن منظمة وجماعة. وعندما تناولنا الوجه التصوفي لحركة فتح الله كولن أشرنا إلى هذا الفرق، وأكدنا بشكل واضح وصريح أن حركته هذه لم تشكل "طريقة" من الطرق الصوفية.
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أن براعة فتح الله كولن ومهارته في الخطابة ساهمت بشكل كبير في إعطاء شكل معين وسمة معينة لحركته؛ فاستطاع بقابليته الخطابية هذه جلْبَ انتباه الجماهير وإثارةَ اهتمامهم. وفي أحاديثه وخطبه يُلاحَظ أنه -بجانب كونه مفكرًا غزير العلم والمعرفة- يحرك العواطف والأحاسيس أيضًا، أي إنه خطيب يخطب على المنابر بوجدانه وقلبه كما يخطب بفكره وعقله. لذا فكما يتم تحليل مقالات فتح الله كولن ونشاطاته الثقافية الاجتماعية، يجب تحليل شخصيته من خلال ألفاظه الشفوية وأحاديثه الثقافية.
لقد كان نقل المعلومات الثقافية شفاهًا من أهم وجوه النقل والتواصل الثقافي في المجتمع الإسلامي. وقد وُجد هذا النسيج الثقافي المتلائم مع البنية الاجتماعية للإسلام طوال عصور عديدة؛ فازدهر الوعظ وتطورت الخطابة في التاريخ الإسلامي كفن أدبي، ولم يزل الوعظ يلعب دورًا مهمًّا في نقل التراث الثقافي والإسلامي من جيل إلى آخر. لذا وَجدت بداية النشاطات الاجتماعية والدينية لحركة فتح الله كولن نفسَها في إطار هذا النقل الثقافي الشفوي. فحاولتُ تحليل هذا التقليد الإسلامي، أي "تحليل تقليد الخطابة الشفوية" في القسم الأول من هذا الكتاب تحت عنوان مستقل، ثم تحليلَ دور هذه الخطابة في تشكيلِ ملامح المجتمع الإسلامي.
وتوجد آثار عميقة للخطابة الشفوية في الحياة الاجتماعية والثقافية للجماعات الإسلامية المعاصرة. وعندما ندرك التأثير الاجتماعي لثقافة الخطابة على الجماهير، ندرك السبب الكامن وراء التأثير الكبير لكلامِ وتوصياتِ ونصائحِ صانع أفكار مثل فتح الله كولن على الجماهير الواسعة.
وعلى الرغم من أن فتح الله كولن لا يتربع على قمة هرمِ منظمة بشكل فعلي وعضوي، إلا أن لأفكاره وتوصياته تأثيرا مهما على الجماهير. بيدَ أن التزام الجماهير بتوصياته وأفكاره كل الالتزام ووَضْعها ضمن المشاريع الاجتماعية، يعود إلى قابليته الخطابية هذه وإلى تأثير هذه الثقافة الشفوية العميقة والمتأصلة، في المجتمع. وعندما تغيب هذه النقطة عن الأذهان يضطر فتح الله كولن -وبإلحاح- إلى التوكيد بأن ليس له علاقة عضوية بالجماعة ومؤسساتها.
ولا نجد نظيرا لهذا التأثير الاجتماعي الجماهيري للثقافة الشفوية بهذه القوة وبهذه المساحة في الثقافات الأخرى؛ فكل الأديان تقوم على تعاضد وتضامن جماعي وتسعى لتحريك "شعور الخير المشترك" والعمل به ضمن نظام معين. لهذا فإن الدعاة المبشرين في أرجاء العالم -كما يقول طه آق يول([1])- بالمقارنة مع الموظفين الرسميين، يملكون دافعا أكبر وحماسة أقوى في نشاطهم ودعوتهم. وعندما يتحد شعور "الخير" الموجود في الإنسان مع المثل الاجتماعية للإسلام، يتحول إلى تأثير ومحرك جماهيري. وهنا تبرز الوظيفة الأهم للثقافة الشفوية.
الإسلام دين واسع المدى والأفق -بلا حدود- لذلك فهو دين عالمي. وقد توجّه الأستاذ فتح الله كولن إلى مشاعر الخير والمسامحة الثرة الكامنة داخل الإنسان التركي وحرّكها وأثارها. إن هذه التضحية للإنسان التركي مظهر من مظاهر فهمه العميق للإسلام. وهنا تكتسب رسالة فتح الله كولن أهميتها. فالشعب التركي كريم ومعطاء، وقد لاحظ فتح الله كولن عمق هذا الكرم والعطاء الموجود عند الشعب التركي. ولكن لكي لا يتم استغلال هذا الكرم استغلالاً سيّئًا فقد اعتنى فتح الله كولن عناية خاصة بتوجيه هذه العواطف والمشاعر نحو المصالح العليا للمجتمع، وحث السير ضمن هذا الإطار باستمرار وبلا توقف. وهكذا أوجد فهما جديدًا للتضحية والتساند الجماعي في المجتمع.
لقد اهتم فتح الله كولن بالعقل والفكر وتزويدهما بالعلم والحكمة والمعرفة من جهة، وبالقلب والوجدان وتقويمهما بعوامل الخير والإحسان من جهة أخرى. وهكذا نكتشف جانبين من شخصيته:
الجانب الأول: هو "علمه"، والثاني: هو "عرفانه"؛ فهو يملك معلومات واسعة في العلوم الدينية وفي الثقافة الغربية وفي الفلسفة وفي المشاكل الاجتماعية والثقافية للعالم الحديث. فمن هذه الناحية يظهر أمامنا هويته كعالم ديني وكمفكر عقلاني في جميع الساحات هذه. وهو باستنادٍ إلى مخزون معلوماته وإلى تراكم تجاربه قَدم في شخصه أنموذجا مثاليّا في أفكاره النيرة وآرائه العقلانية تجاه العالم.
أما الجانب الثاني من شخصيته -أي الجانب السلوكي والعرفاني- فهو يحتوي على معلوماته العرفانية حول الوجود والكائنات، وعلى تجاربه في هذا الخصوص. ولا شكّ أننا إن بقينا في إطار أحاسيسنا المادية وما تعكسه هذه الأحاسيس من العالم المادي، يصعب علينا فهم جانبه هذا. فلِكي نفهم جانبه المعنوي ومكتسباته في هذه الناحية، علينا أن نتجاوز الحدود المادية التي تشكل إطار فكرنا. وطالما بقينا في إطار الحدود التي رسمها العالَم المادي في أذهاننا، فلن نستطيع فهم تجربته الروحية والمعنوية الغنية. بيد أن التجربة الروحيية الإسلامية تستدعي مستوى عاليًا ومختلفًا من المعرفة والمشاعر. وسيبقى كل ما يقال في هذا الخصوص ضمن قدرة اللسان على التعبير.
وأنا أعتقد بأن هذا الجانب العرفاني العميق للأستاذ فتح الله كولن يستحق أن يكون موضوعًا لكتاب آخر، وأرى أن أي تحليل مصطلحيّ لا يستطيع التعبير بشكل كاف عن مثل هذه التجارب الروحية والمعنوية، لأنه يجب ممارسة مثل هذه التجربة الروحية والمعنوية العميقة ممارسة جيدة. وأستطيع -كخرّيجٍ من كليةِ الشريعة- ذكْرَ بعض الأمور حول مستوى علمه في العلوم الإسلامية، وقابليته في تركيب المعاني والاجتهاد والتفسير. فهذا ممكن ضمن إطار التعبير اللغوي والثقافي. ولكني لا أعتقد أنني أستطيع قول شيء يذكر حول جانبه المعنوي وحول مدى عمق هذا الجانب فيه وعمق تجربته الروحية. فهو من الناحية الشخصية مسلم عادي يعيش ضمن جو روحاني عالٍ. ويَعرف كلُّ القريبين منه بأن مَن لا يملك سعة وغنى في القلب والروح والذهن، لا يستطيع مشاركته في عالم المشاعر هذه، ولا يستطيع أن يديم علاقته به مدة طويلة. وخطابه للقريبين منه والموجودين حواليه يتضمن إيقاعًا معنويًا عميقًا. ولعل طراز حياته المتسم بالحساسية، وعلاقته بالموجودات، بل حتى علاقته الجمالية بالمكان المحيط به، يقدم صورة عن جانبه العرفاني العميق... إذن، اسمحوا لي أن أخط بعض الأسطر في شرح هذا الأمر في إطار حدودي المعرفية.
من التراث إلى الحداثة
لم أستطع تقديم تحليل وافٍ في هذا الكتاب حول شخصية فتح الله كولن، لأن الكتاب ليس محصورًا في إطار استعراض مراحل حياته، لذا فهو لا يغني في هذا الصدد. وقد كانت عندي أسبابي العديدة التي ثبطت عزمي عن استعراض مراحل حياته وتحليلها، لأن تحليل شخصية كبيرة بهذا المقياس يتجاوز قدراتي ومعلوماتي وتجاربي وقابليتي في التعبير. فما كتبته هنا هو عبارة عن ملاحظاتي المتواضعة النابعة من معرفتي به، وليس تحليلاً عميقًا لشخصيته. فما دمت لم أقم بتحليل الجوانب المتعددة لشخصيته، فلماذا إذن أُقدم هنا ملاحظات ومشاهدات متبعثرة؟.. أقوم بهذا من أجل شرح الصعوبة الموجودة في فهم الشخصيات التقليدية للعلماء الذين قاموا بنقل التراث الإسلامي من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل، ولعبوا في هذا الصدد دورًا مركزيًّا وفعّالاً.. أي شرح الماهية الروحية العميقة والاجتماعية لهم بالمصطلحات العصرية ونماذجها. فليس من السهل النفوذ إلى العالم الداخلي لهؤلاء بكل أجوائه الروحية والمعنوية، ولا إلى جو الوقار الذي يحيط بهم ويظهر في تصرفاتهم.
وأقول مرة أخرى، بأننا إن بقينا محصورين في إطار ما تُقدّمه لنا حواسنا وفكرنا المتسم بـ"العقلانية" (Rational) للعصر الحديث، فلن نستطيع النفوذ بحقٍ إلى أغوار العوالم الروحية والمعنوية لمثل هؤلاء العلماء التقليديين، ولا يمكننا فهم العلاقة العرفانية التي يؤسسونها مع الأشياء والموجودات، ولا فهمُ أحاسيسهم حول كونهم مراقَبين من قِبل الله تعالى.
إن فتح الله كولن من الشخصيات التي يصعب حقًّا تحليلها. وحسب ما أعتقد فهو من الحلقات الأخيرة لسلسلة العلماء المسلمين. ولا أقول هو الحلقة الأخيرة لأنني لم أتتبّع سلسلة معينة منهم.
إن فتح الله كولن هو صورة للتراث الإسلامي في العصر الحديث. [ولم أصادف شخصيًا في حياتي إنسانًا آخر يملك هذا المستوى الرفيع من المعرفة ومراقبة النفس في كل شأن من الشؤون.. لا محل للفوضى في حياته؛ فهو يعيش بنظام الساعة ودقّتها. فكأنه اتخذ من النظام المدهش السائد في الكون أساسًا لحياته. ويمكن مشاهدة هذا الأمر في جميع شؤونه بدءًا من أبسط حركاته، ووصولاً إلى قيامه بتخطيط الكثير من الفعاليات والأنشطة. فكأننا أمام عقل يعمل بإيقاع منظم على الدوام..] وهو حساس جدًّا أمام العناصر المعنوية كحساسيته أمام العناصر المادية.. نظراته وأطواره وقورة جدًّا، وهذه النظرات تبدو وكأنها لا تلامس المظاهر الخارجية بل تنفذ إلى الأعماق.
لا يلتفت الأستاذ فتح الله كولن إلى القيم والأذواق المادية التي فتنت الناس بها ولا يعيرها اهتمامًا... إن هذه القيم والأذواق قد تكون من توابع الحياة، وأمورًا طبيعية بل ضرورية للإنسان كشخص دنيوي وكأب وزوج ورئيس عائلة. وهي تشغل حيزًا مّا في قلوبنا، وتهب نوعًا من الآمال والسعادة أو اللذائذ الدنيوية، ولكنها ليست على الإطلاق عناصر رئيسة في صراعنا وفي سبب وجودنا. فقد وُجد الإنسان على ظهر هذه الأرض لمثل وقيم عليا أسمى منها. ولو لم يكن هذا صحيحًا، فلِما يضحّي الإنسان إذن بنفسه وماله من أجل ما يعتقد أنها قيم مقدسة؟ يضحّي بنفسه من أجل الدين والوطن والأمة.. إن هذا هو ما يجعل الإنسان عظيمًا ومهمًّا.
هذه هي القيم السامية التي يدعو إليها الأستاذ فتح الله كولن؛ يدعو الجماهير إلى أمور أسمى من الأمور اليومية الصغيرة التي ينشغل بها الإنسان في حياته اليومية، وإلى القيام بخدمات أسمى وأهم، وإلى مشاعر متأججة، وإلى قيم إنسانية عليا. هذا هو لبّ نضاله وجوهرُه، أي يناضل ضد الارتخاء والارتماء في أحضان الدنيا.. إنه استصغر الدنيا وملذاتها ونذر نفسه من أجل الآخرين، مما يعني التوجه نحو الأزلية.
وهو أحد نماذج الدعاة النشطين الذين أنتجَتهم التقاليد الإسلامية ضمن عصور عدة، وأنموذج مثالي من هذه النماذج. ولا يُعدّ من هواة وضع الأيدولوجيات التي تقيم المجتمعات ثم تهدمها مثل واضعي الأيدولوجيات في العصر الحديث، الذين سعوا لهدم جميع ألوان التقاليد والأعراف، لأنهم تصرفوا بالروح الثورية الهدامة لعصر التنوير.
لم يمد الأستاذ فتح الله كولن يده إلى شرايين المجتمع ولم يعبث بشعيراته، بينما سعى جميع واضعي الأيدولوجيات لهذا العبث دون أي شعور بالمسؤولية. لذا فإنه كان ضد التمسك بهذه الأيدولوجيات.
إنه إنسان أنتجته تقاليد طويلة وعريقة، حيث نشأ في بيئة محافظة. كان قد استوعب الجو المحافظ بكل تفاصيله، وشكل منظومة فكره ونظرته إلى العالم وتفسيره له. وكان يدرك النقاط التي يجب المحافظة عليها وتفسيرها وتوسيعها. وساعدتْه على هذا معرفتُه الواسعة بالعلوم الدينية ومنظومتها الفكرية. ولكنه -كإنسان- يملك شخصية ثقافية عميقة يدرك بها أحوال العصر الذي يعيش فيه، ويملك قابلية التجديد. كان شاهدًا على هذا العصر الذي أحدث تغييرات ثقافية عميقة تجرّعت الإنسانية مرارتها. كان من أفضل المدركين للموجات والتغييرات السياسية والفكرية الجذرية وبتأثيرات الصراعات والتحزبات والانقسامات التي جلبتها.
عندما ننظر من أعتاب دنيا إدراكنا العقلي المعاصر، نرى أن فتح الله كولن يملك شخصية معنوية وفكرية قوية، قد عركته تجارب سنين طويلة في دنيا الفكر، فوقف بشكل مهيب يخاطب هذا العصر الذي ضعفت فيه الروح والفطرة السليمة، وضعف فيه الإدراك الصحيح. ولا يحس الأشخاص القريبون منه -في ظل الثقل الفكري والمعنوي له- بالراحة. لأن عليهم أن يكونوا يقظين على الدوام وفي جو روحي عميق.. ولا يمكن الولوج إلى عالمه بأحاسيسَ ومشاعرَ تميل إلى الدنيا وإلى متاعها المادي ومصالحها ومنافعها. فلكي تلج إلى عالمه عليك أن تتجاوز حدود عالمك الشخصي وتتعداه. وبالمقابل هو أيضا لا يساعدنا كثيرًا على فهمه وتحليل شخصيته بعمق، لأنه يقوم بإخفاء العديد من الأمور المتعلقة به ويسترها بسبب تواضعه الجم.
في حين أن هناك العديد من الشخصيات يَسهل كثيرًا تحليلُها، لأنها تحاول بكل ما تملك من قوة وبكل جهدها إظهارَ كل ما يتعلق بها. ولكن هذا الطريق مسدود بالنسبة للأستاذ فتح الله كولن الذي اختار حياة الوحدة وحياة العيش وراء الأستار. فهو وحيد حتى مع أقرب الموجودين حواليه. وهو -ككل صاحب دعوة- يحاول التسلق إلى أعلى الأعالي ووضعَ كل شيء في إطار من النظام. لذا نرى أن إنسان هذا العصر الغارقَ في الدنيا وفي أنانيته ومصالحه الذاتية، لا يستطيع أن يفهم -حق الفهم- مثل هذه الشخصيات التي يغلب عليها طابع الروح والمعنويات والتي هي نتاج تاريخ طويل من التقاليد.
([1]) كاتب وباحث وصحفي تركي معروف. (المترجم)