أكرم دومانلي
شاءت الأقدار أن تشهد تركيا التطورات التي حدثت على خلفية أكبر قضية فساد ورشوة في تاريخها، في الوقت الذي وقعت حوادث مماثلة في العديد من بلدان العالم؛ مماثلة في الصورة والظاهر، مغايرة تماماً في الحقيقة والجوهر!
يعلم الجميع واقع الحال لدينا، فالسلطة الحاكمة في تركيا تتدخّل بكل وسيلة ومناسبة وبصورة دائمة في التحقيق الذي تجريه النيابة العامة وتتهم فيه أربعة وزراء وأبنائهم بتهم خطيرة بحيث تقشعر منها الجلود. ومنذ الأيام الأولى من بدء التحقيق، تمّ عزل عدد كبير من القيادات الأمنية، وتعيين نائبين عامين إلى جانب النائب العام الذي أطلق التحقيق، وتعميم تغيير مناصب الكوادر الأمنية والشرطية في جميع أنحاء تركيا، فضلاً عن الضغوطات التي تمارِس ضد كل من يدعم عملية التحقيق، بما فيهم وسائل الإعلام المختلفة، وإهانة الأبرياء واتهامهم بتشكيل "عصابة".. كل ذلك من أجل إسدال ستار أسود على أعمال الفساد…
بينما خيّم هذا المشهد الغريب على تركيا مثل الكابوس، شاءت الأقدار أن تشهد عدد من بلدان العالم أحداثاً مشابهة. مثلما حدث في إسبانيا، إذ كان رئيس الوزراء الإسباني "ماريانو راخوي" في رحلة خارجية، داهمت الشرطة المقر الرئيسي للحزب الحاكم في إسبانيا، وأجرت عملية تفتيش في المبنى لمدة 14 ساعة، سعياً للعثور على الأدلة. أي نوع من الأدلة؟ أدلة الفساد المالي! أرأيتم ماذا فعل رئيس وزراء هذا البلد؟ أأنّب الصحفيين بقوله "التزموا الأدب والأخلاق"؟! أعزل ضباط الشرطة من وظائفهم؟! أتحدّث عن لعبة ومؤامرة دولية؟! بل على العكس تماماً، صرّح من العاصمة البلجيكية بروكسل التي وصلها لحضور قمةٍ للاتحاد الأوروبي أنه ليس هناك ما يبعث على القلق، ثمّ أضاف "لقد أصدرت جميع التعليمات اللازمة لتوفير كافة التسهيلات حتى يتمّ التفتيش والتحقيق على نحو مطلوب." هل ساءت سمعة رئيس الوزراء الإسباني أو لحقت أضرار بشرعية حكومته إذ قال كذلك؟! بل إنه فعل ما تقتضيه مبادئ سيادة القانون والدولة الديمقراطية.
كذلك وقعت حادثة مماثلة أخرى مثيرة للاهتمام أيضاً، وهذه المرة في اليابان. إذ يزعمون بأن حاكم طوكيو "ناوكي إينوزي" قبض من شركةٍ رشوةً بمبلغ 500 ألف دولار لما كان نائب حاكم المدينة. واعترف الحاكم بأنه اقترض العام المنصرم من الشركة لأغراضه وحاجاته الشخصية، ولكنّه سدّد جميع ديونه للشركة، مشدّداً على عدم تقديمه أي امتيازات للشركة المعنية. وعلى الرغم من أنه أدلى بهذه التصريحات، إلا أنه أعلن في الوقت ذاته عن استقالته من منصبه لكي لا تواجه الحكومة اليابانية أي مشاكل وصعوبات في استثماراتها العملاقة لدورة الألعاب الأولمبية العالمية. قولوا لي -بالله عليكم- إن لم يكن هذا السلوك نبلاً وفضيلة فما هو إذن؟!
ليس هذا فحسب، فقد هنّأ رئيس الوزراء اليوناني "أنطونيس ساماراس" ضباط الشرطة الذين اعتقلوا وزير النقل اليوناني السابق لاستخدامه لوحة مزوّرة تابعة لسيارته الفاخرة من نوع سيارات الدفع الرباعي، ثمّ عقّب قائلاً: "كل من يخالف القانون فلا بد من اعتقاله ومعاقبته." وهل تعرفون أين قال رئيس الوزراء اليوناني هذا؟ إنه أدلى بهذا البيان في مؤتمر صحفي في بروكسل. فهل سقط من عيون العالم وفقد هيبته عندما صرّح ذلك رئيس الوزراء اليوناني الذي تستعد بلاده لتسلّم الفترة الرئاسية للاتحاد الأوروبي بعد حوالي أسبوع؟
وقد وقعت قبل بضعة أيام حادثة شبيهة تنطوي على الدروس والعبر لما استقال فرناندو لورنزو؛ وزير الاقتصاد في أوروغواي الواقع في الجزء الجنوبي الشرقي من أمريكا الجنوبية بسبب اتهامات الرشوة أيضاً. لقد استقال الرجل عندما وردت مزاعم بأنه تلقى رشوة من شركات الطياران في العطاء الذي طرح العام الماضي، في مسعىً منه إلى "تسهيل العملية القضائية". أما رئيس أوروغواي "خوسيه موخيكا" فوصف سلوك الوزير بـ"الأخلاقي"، ومن ثم أتبع "لقد قطعت الحكومة كافة علاقاتها مع صديقنا حتى تبرّئ المحكمة ساحته."
من الممكن أن تحدث انتهاكات في كل بلد، وأن يتورّط بعض الأشخاص في أعمال غير قانونية لعدم وجود رقابة تامة على تصرفاتهم. في مثل هذه الحالات، ينبغي التحقيق في كل صغيرة وكبيرة، وكشف الغطاء عن جميع من تورّط فيها، بغض النظر عن هويته ومكانته، بدلاً من الزعم بأنه "لا يخرج منا من يرتشي ويسرق". ولا شكّ أن اللجوء إلى نظريات المؤامرة، وإصدار ضجيج وصخب بقصد خلق حالة من الخوف والهلع لدى الناس، في وجود معلومات ووثائق ثابتة تدلّ على اتهامات الرشوة، لن يحل المشكلة أبداً. فضلاً عن ذلك، فإنه كلما حدثت تدخلات في السلطة القضائية، وكلما انتُهك القانون تزداد صحة وقوة المزاعم الواردة في هذا الصدد.
إلى جانب كل ذلك، يجب على الذين يشعرون بثقل الرسالة الإسلامية على كواهلهم أن يبدوا اهتماماً إلى درجة قصوى لقضايا الفساد والرشوة، بمقتضى الإيمان بالله تعالى وبالآخرة. فقد غادرَنا الرسول صلى الله عليه وسلّم وانتقل إلى الدار الآخرة بعد أن استودع فينا قوله الذي لا يزال يدوّي في أرجاء السماء والأرض "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها." ووقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم يخطب في الناس، فما كاد يقول (أيها الناس اسمعوا واطيعوا) حتى قاطعه أحدهم قائلاً: لا سمع ولا طاعة يا عمر! فقال عمر بهدوء: لم يا عبد لله؟ قال: لأن كلاً منا أصابه قميص واحد من القماش لستر عورته، وأنت أصبت قميصين. فقال له عمر: مكانك، ثم نادى ولده عبد لله بن عمر، فبين عبد الله أنه قد أعطى أباه نصيبه من القماش ليكمل به ثوبه، فاقتنع الصحابة وقال الرجل في احترام وخشوع: الآن السمع والطاعة يا أمير المؤمنين.
أهذه الأحداث عبارة عن الأساطير والحكايات والمناقب الفارغة؟!
بالله عليكم كونوا منصفين! فلا يعمدنّ أحد إلى تغيير سياق الموضوع. فما المصالح والثمرات التي من الممكن أن تجنيها "الجماعة" (حركة الخدمة التي تستلهم أفكارها من العلامة محمد فتح الله كولن) من وراء أضرار تلحق بالحزب الحاكم في تركيا؟! فبدلاً من المؤامرات الوهمية، يتعيّن علينا أن نركّز على ما هو الإسلامي والإنساني والقانوني. أجل من الممكن إلهاء المشجّعين في المدرجات وإغراؤهم بمزاعم لا أساس لها لفترة من الوقت، ولكن من المستحيل بمكان أن تستسيغ الضمائر مثل هذه المزاعم وتطمئنّ إليها في وجود المعلومات والوثائق والحقائق الثابتة. ولا ريب أن اختلاق جريمة، ثم البحث عمن يمكن إلصاقها به، واستخدام قوة الدولة ضد "التهديدات الداخلية" الوهمية، إنما هو جريمة أعظم من جريمة المزاعم الواردة بخصوص الرشوة والفساد.. ولا يمكن تحمّل تبعات ذلك لا في الدنيا ولا في الآخرة…
شاءت الأقدار أن تشهد تركيا التطورات التي حدثت على خلفية أكبر قضية فساد ورشوة في تاريخها، في الوقت الذي وقعت حوادث مماثلة في العديد من بلدان العالم؛ مماثلة في الصورة والظاهر، مغايرة تماماً في الحقيقة والجوهر!
يعلم الجميع واقع الحال لدينا، فالسلطة الحاكمة في تركيا تتدخّل بكل وسيلة ومناسبة وبصورة دائمة في التحقيق الذي تجريه النيابة العامة وتتهم فيه أربعة وزراء وأبنائهم بتهم خطيرة بحيث تقشعر منها الجلود. ومنذ الأيام الأولى من بدء التحقيق، تمّ عزل عدد كبير من القيادات الأمنية، وتعيين نائبين عامين إلى جانب النائب العام الذي أطلق التحقيق، وتعميم تغيير مناصب الكوادر الأمنية والشرطية في جميع أنحاء تركيا، فضلاً عن الضغوطات التي تمارِس ضد كل من يدعم عملية التحقيق، بما فيهم وسائل الإعلام المختلفة، وإهانة الأبرياء واتهامهم بتشكيل "عصابة".. كل ذلك من أجل إسدال ستار أسود على أعمال الفساد…
بينما خيّم هذا المشهد الغريب على تركيا مثل الكابوس، شاءت الأقدار أن تشهد عدد من بلدان العالم أحداثاً مشابهة. مثلما حدث في إسبانيا، إذ كان رئيس الوزراء الإسباني "ماريانو راخوي" في رحلة خارجية، داهمت الشرطة المقر الرئيسي للحزب الحاكم في إسبانيا، وأجرت عملية تفتيش في المبنى لمدة 14 ساعة، سعياً للعثور على الأدلة. أي نوع من الأدلة؟ أدلة الفساد المالي! أرأيتم ماذا فعل رئيس وزراء هذا البلد؟ أأنّب الصحفيين بقوله "التزموا الأدب والأخلاق"؟! أعزل ضباط الشرطة من وظائفهم؟! أتحدّث عن لعبة ومؤامرة دولية؟! بل على العكس تماماً، صرّح من العاصمة البلجيكية بروكسل التي وصلها لحضور قمةٍ للاتحاد الأوروبي أنه ليس هناك ما يبعث على القلق، ثمّ أضاف "لقد أصدرت جميع التعليمات اللازمة لتوفير كافة التسهيلات حتى يتمّ التفتيش والتحقيق على نحو مطلوب." هل ساءت سمعة رئيس الوزراء الإسباني أو لحقت أضرار بشرعية حكومته إذ قال كذلك؟! بل إنه فعل ما تقتضيه مبادئ سيادة القانون والدولة الديمقراطية.
كذلك وقعت حادثة مماثلة أخرى مثيرة للاهتمام أيضاً، وهذه المرة في اليابان. إذ يزعمون بأن حاكم طوكيو "ناوكي إينوزي" قبض من شركةٍ رشوةً بمبلغ 500 ألف دولار لما كان نائب حاكم المدينة. واعترف الحاكم بأنه اقترض العام المنصرم من الشركة لأغراضه وحاجاته الشخصية، ولكنّه سدّد جميع ديونه للشركة، مشدّداً على عدم تقديمه أي امتيازات للشركة المعنية. وعلى الرغم من أنه أدلى بهذه التصريحات، إلا أنه أعلن في الوقت ذاته عن استقالته من منصبه لكي لا تواجه الحكومة اليابانية أي مشاكل وصعوبات في استثماراتها العملاقة لدورة الألعاب الأولمبية العالمية. قولوا لي -بالله عليكم- إن لم يكن هذا السلوك نبلاً وفضيلة فما هو إذن؟!
ليس هذا فحسب، فقد هنّأ رئيس الوزراء اليوناني "أنطونيس ساماراس" ضباط الشرطة الذين اعتقلوا وزير النقل اليوناني السابق لاستخدامه لوحة مزوّرة تابعة لسيارته الفاخرة من نوع سيارات الدفع الرباعي، ثمّ عقّب قائلاً: "كل من يخالف القانون فلا بد من اعتقاله ومعاقبته." وهل تعرفون أين قال رئيس الوزراء اليوناني هذا؟ إنه أدلى بهذا البيان في مؤتمر صحفي في بروكسل. فهل سقط من عيون العالم وفقد هيبته عندما صرّح ذلك رئيس الوزراء اليوناني الذي تستعد بلاده لتسلّم الفترة الرئاسية للاتحاد الأوروبي بعد حوالي أسبوع؟
وقد وقعت قبل بضعة أيام حادثة شبيهة تنطوي على الدروس والعبر لما استقال فرناندو لورنزو؛ وزير الاقتصاد في أوروغواي الواقع في الجزء الجنوبي الشرقي من أمريكا الجنوبية بسبب اتهامات الرشوة أيضاً. لقد استقال الرجل عندما وردت مزاعم بأنه تلقى رشوة من شركات الطياران في العطاء الذي طرح العام الماضي، في مسعىً منه إلى "تسهيل العملية القضائية". أما رئيس أوروغواي "خوسيه موخيكا" فوصف سلوك الوزير بـ"الأخلاقي"، ومن ثم أتبع "لقد قطعت الحكومة كافة علاقاتها مع صديقنا حتى تبرّئ المحكمة ساحته."
من الممكن أن تحدث انتهاكات في كل بلد، وأن يتورّط بعض الأشخاص في أعمال غير قانونية لعدم وجود رقابة تامة على تصرفاتهم. في مثل هذه الحالات، ينبغي التحقيق في كل صغيرة وكبيرة، وكشف الغطاء عن جميع من تورّط فيها، بغض النظر عن هويته ومكانته، بدلاً من الزعم بأنه "لا يخرج منا من يرتشي ويسرق". ولا شكّ أن اللجوء إلى نظريات المؤامرة، وإصدار ضجيج وصخب بقصد خلق حالة من الخوف والهلع لدى الناس، في وجود معلومات ووثائق ثابتة تدلّ على اتهامات الرشوة، لن يحل المشكلة أبداً. فضلاً عن ذلك، فإنه كلما حدثت تدخلات في السلطة القضائية، وكلما انتُهك القانون تزداد صحة وقوة المزاعم الواردة في هذا الصدد.
إلى جانب كل ذلك، يجب على الذين يشعرون بثقل الرسالة الإسلامية على كواهلهم أن يبدوا اهتماماً إلى درجة قصوى لقضايا الفساد والرشوة، بمقتضى الإيمان بالله تعالى وبالآخرة. فقد غادرَنا الرسول صلى الله عليه وسلّم وانتقل إلى الدار الآخرة بعد أن استودع فينا قوله الذي لا يزال يدوّي في أرجاء السماء والأرض "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها." ووقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم يخطب في الناس، فما كاد يقول (أيها الناس اسمعوا واطيعوا) حتى قاطعه أحدهم قائلاً: لا سمع ولا طاعة يا عمر! فقال عمر بهدوء: لم يا عبد لله؟ قال: لأن كلاً منا أصابه قميص واحد من القماش لستر عورته، وأنت أصبت قميصين. فقال له عمر: مكانك، ثم نادى ولده عبد لله بن عمر، فبين عبد الله أنه قد أعطى أباه نصيبه من القماش ليكمل به ثوبه، فاقتنع الصحابة وقال الرجل في احترام وخشوع: الآن السمع والطاعة يا أمير المؤمنين.
أهذه الأحداث عبارة عن الأساطير والحكايات والمناقب الفارغة؟!
بالله عليكم كونوا منصفين! فلا يعمدنّ أحد إلى تغيير سياق الموضوع. فما المصالح والثمرات التي من الممكن أن تجنيها "الجماعة" (حركة الخدمة التي تستلهم أفكارها من العلامة محمد فتح الله كولن) من وراء أضرار تلحق بالحزب الحاكم في تركيا؟! فبدلاً من المؤامرات الوهمية، يتعيّن علينا أن نركّز على ما هو الإسلامي والإنساني والقانوني. أجل من الممكن إلهاء المشجّعين في المدرجات وإغراؤهم بمزاعم لا أساس لها لفترة من الوقت، ولكن من المستحيل بمكان أن تستسيغ الضمائر مثل هذه المزاعم وتطمئنّ إليها في وجود المعلومات والوثائق والحقائق الثابتة. ولا ريب أن اختلاق جريمة، ثم البحث عمن يمكن إلصاقها به، واستخدام قوة الدولة ضد "التهديدات الداخلية" الوهمية، إنما هو جريمة أعظم من جريمة المزاعم الواردة بخصوص الرشوة والفساد.. ولا يمكن تحمّل تبعات ذلك لا في الدنيا ولا في الآخرة…