مقدم البرنامج: بسم الله الرحمن الرحيم، أيها الأخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مجدداً نلتقيكم من هنا، من الرياض، في برنامجكم المتجدد "الحياة كلمة" دوماً بصحبتكم وبصحبة فضيلة الدكتور سلمان العودة، "حيّاك الله يا شيخ!".
الشيخ سلمان: مرحباً بك وبالأخوات والإخوة جميعاً.
مقدم البرنامج: حلْقتنا اليوم عن "تركيا"، وهي امتداد لزيارة تركيا التي قام بها فضيلة الدكتور، وكان فضيلة الدكتور هناك، لعدة مؤتمرات أقيمت هناك. فضيلة الدكتور! تركيا تجربة ثرية، قبل أن أتحدث عن التجربة الحالية تجربة الواقع المعاصر، لا بد أن نتحدث عن عبق التاريخ: العرب والترك صارت بينهم آصرة كبيرة جدّاً كان عنوان هذه الآصرة هو "العلاقة الإسلامية والعمق الروحاني الإيماني". (...) نتحدث عن تركيا التاريخ.
الشيخ سلمان: طبعاً التاريخ، تاريخ طويل، بالمناسبة نحن أكثر من مرة يمكن جِبْنا حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- "اتركوا الترك ما تركوكم"، وهذا يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فأحد الشباب أرسل لي الأسبوع الماضي رسالة يقول: "الترك ما تركونا، وقَفوا معنا في أزماتنا ومحننا وقضايانا، وكما في موضوع غزة وقفتهم التاريخية، وموضوع الصين الآن، وقضايا العروبة والإسلام.. إلخ".
وهذا معنى لطيف، لأن "اتركوا الترك ما تركوكم" هذا يوم كان الترك خصوماً وأعداءً، أما حينما أصبح الترك جزءاً من النسيج الإسلامي، وحملوا الراية، وظلت دولة الخلافة العثمانية لأكثر من سبعة قرون تحمل الراية والمشعل، ويوم وصلت إلى درجة ما يسمى بـ "الرجل المريض"، وتنادت وتداعت عليها أمم الأرض من أجل إسقاطها واقتسام الغنيمة (...).
تركيا كما اشتهرت بالخلافة وحفظ السياسة الإسلامية، اشتهرت أيضاً بحفظ العلم الإسلامي وبالخط، المكتبات في تركيا تحفل بالمخطوطات الإسلامية النادرة بما في ذلك مخطوطات القرآن الكريم. (...) تاريخ الإسلام لا يمكن أن يُفصل عن تاريخ تركيا، لما تأتي الأسبوع الماضي والذي قبله كنا في إسطنبول هذا البلد العريق، هذا البلد كان في أصله بلداً رومانيّاً، وكان من الممكن أن لا ترى فيه مئذنة وأن لا ترى فيه إلا الكنائس والمعابد، بينما رأينا فيه المساجد على أحدث طراز، وما كان علي أحمد باكثير يتكلم:
وكم بالآستانة من معان أثارت في حناياي الشجونا
معانٍ ليس تعدلها معان تفجّر في الفؤاد هدًى مبينا
تزيد الكافرين أسًى وغيظاً إذا نظروا، وتُرضي المؤمنينا
ومَن ينظر مآذنها يجدها رِماحاً في صدور الكافرينا
فعلاً، صِيغة بناء المآذن توحي بهذا المعنى الذي أشار إليه، كأنها رماح في علوّها وارتفاعها ودقّتها. فهنا تجد كيف أن السلطان محمد الفاتح، ومراد، وغيرهم من السلاطين استطاعوا أن يقيموا هذه الدولة، ويواجهوا التحدّيات الضخمة، ويمتدّوا في مشارق الأرض ومغاربها، ويطرقوا أبواب أوربا وأبواب فيينا، ويضمّوا كثيراً من الدول؛ ألبانيا والبوسنة ومناطق البلقان التي تحولت إلى مناطق إسلامية عريقة على أيدي هؤلاء الأتراك. (...)
مقدم البرنامج: البنية الأساسية في تركيا تتطور بشكل مذهل ولمسها المواطن التركي.
الشيخ سلمان: وهذا أيضاً ملاحظ.. الإنسان الذي جاء إلى تركيا قبل ستّ أو عشر سنوات وجاء إليها الآن، يلاحظ الفرق الكبير، حتى في جوانب الخدمات، في جوانب البنية الأساسية، بل حتى -سبحان الله- في الجوانب النفسية والمزاجية. لأن هذه يبدو أنها مترابطة، وأظن هذا جزء من النجاح، القدرة على التأثير حتى على نفسية المواطن التركي، كيف كان يتعامل مثلاً سائق التاكسي أو الموظف أو الشخص العادي مع العربي من قبل، وكيف يتعامل معه الآن؟ أعتقد أن هناك اختلافاً لاحظناه وتحسناً كبيراً في هذا الجانب، يوحي فعلاً بأننا بصدد تجربة رائدة إذا كتب لها أن تستمر فهذا خير كثير.
مقدم البرنامج: العمالة التطوعية، المستشفيات، المدارس.. هذه أيضًا يبدو لي ارتفعت احصائياتها كثيراً جدّاً بالذات بعد عام 2002.
الشيخ سلمان: يمكن أنا أقتبس هذا السؤال لأتحدث عن تجربة رأيتُها هناك، تجربة "فتح الله كولان" كما يسمّونه، وهو شيخ عالِم فقيه، يمكن في السبعين من عمره، يعيش الآن في أمريكا، لكنه يعيش في تركيا في الوقت ذاته، روحه موجودة في تركيا، أتباعه الكثيرون، مدارسه التي تُعَدّ بالآلاف داخل تركيا والآلاف خارج تركيا في الاتحاد السوفيتي والبلقان ومصر والمغرب وإفريقيا وفي كل مكان. مئات الكليات التي تُعتبر في حقيقة الأمر تتبع ما يسمى بنظام "الخدمة". حتى اسم، ليس لهم اسم، ليس هناك تنظيم لهذا الوجود يُلمَس، لكن هناك أتباع وتلاميذ اقتبسوا هذه الروح العالية عن "فتح الله كولن".. كان عنده أيضاً عشرات القنوات الفضائية، عشرات الصحف، حتى -جريدة واحدة- جريدة أظن اسمها "زَمان"، أكبر جريدة تركية، يُوزّع منها يوميّاً مليون نسخة. مجلة شهرية يُوزّع منها ثمانمائة ألف نسخة. وعندهم أكثر من عشرين مجلة. طبعاً هناك مجلة بالعربي أيضاً اسمها "حراء"، تُطبع من مصر. عندهم عشرات المستشفيات. مدارس، حدِّث ولا حرج. مساجد، مناشط... يعني شيء مُذهل. كلّه يعود الفضل فيه بعد الله إلى هذه الروح التي بثّها هذا الرجل: "فتح الله كولَن..
قرأتُ عدداً من كتب له، كتب حتى بالعربية، وكتب مترجمة.. له أكثر من أربعين كتاباً. وعنده كتاب في السيرة النبوية. رأيت تلاميذه، سمعتُهم يتحدثون عنه بشكل غريب. سمعتُ مقطعاً صوتيّاً له وهو يتكلّم عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ» طبعاً باللغة التركية. لم أفهم، لكنني عرفتُ روحه.. يتكلّم والدموع تنحدر من عينيه، أنه "ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار".. يقول، هذا ليس خبراً فقط، وإنما هو خبر وأمر، يطلب من المسلمين أن يُبلّغوا هذا الدين، ويصيح يقول: "وجدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم غريباً في كثير من الديار الذي جُلْتُها، كنت أشعر وكأنني أبتلع المسامير". يقول، "لأنني وجدت غربة النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد أوربا وأمريكا.. "كلّ من له ليل ونهار" -لاحظ المعنى اللطيف يقول-: "كل من له ليل ونهار، ينبغي أن يشتغل في تبليغ الدين ما بلغ الليل والنهار". يعني له ليل يخلو فيه بربّه، وله نهار أيضاً يعاني فيه سبحاً طويلاً ويبني ويؤسس ويعمل ويحتكّ بالناس، ينبغي أن يكون له مشاركة في هذا المعنى. يَدعو الناس إلى وصل من قطع، يقول: "الصحابة رضي الله عنهم كانوا حفاة جياعاً، ومع ذلك ركبوا الخيول المطهَّمة، وحملوا الدعوة إلى كل مكان. وهذا الأمر قد توقف وانقطع، وهذه الروح قد تجمّدتْ. يجب علينا أن نجدد هذه الروح، ونجدد ما انقطع"... يتكلم والمنديل في يده، بكل عفوية... تجد أنه هناك روح عالية..
هذا الرجل صاحب سلوك إيماني، وتصوف صافٍ، بعيداً عن الغلو والانحراف. صاحب فقه واهتمام بالفقه، خاصة كتب الفقه الحنفي. صاحب عناية بالحديث، حتى إنه يقرأ كتب السنة التسعة، مثلاً مسند أحمد، والصحاح الستّة، والدارمي، ويقرأ شروحها أيضاً مثل فتح الباري، والعيني، والكرماني، وعارضة الأحوذي، وتحفة الأحوذي. وكنـز العمال في شهر رمضان قرأه، كل هذا مع طلابه يُدرّسهم. التفسير، تفسير ابن كثير، وغيره من التفاسير. بل إنه همّ أن يبدأ بقراءة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكنه توقّف بعد ذلك بسبب المرض والانشغال والسفر..
فوجدنا تلاميذه، ووجدنا بصماته، ووجدنا قدرته على التأثير؛ ولذلك هو أبو "الإسلام الاجتماعي" في تركيا، أبو "الإسلام الوعظي". هو طبعاً يمكن أن استفادوا مما يسمى بالمدرسة النورْسيّة سعيد النورْسي، ولكنهم تميزوا عنها. الحرص هنا على الروح الإسلامية الواعية القوية، وفي الوقت ذاته الحرص على العلم المدني الحديث. عندهم هذه المدارس التي يتخرّج منها أنبغ الطلاب، وعلى سبيل المثال: رأينا مدرسة واحدة، هي عبارة عن تقريباً أكثر من عشر فِلَل أو اثنا عشر فلّة فاخرة جداً، وإلى جوارها مسجد ضخم يخصّهم. يحدثوننا عن قصة هذه الفلل أنه كانت لرجل متأثر بالشيخ، وكان يريد أن يسكنها لتكون قريبة من المسجد، فجاءه الشيخ وقال له: "ألا أقترح عليك اقتراحاً؟" قال له: "بلى". قال: "أن ترسل هذه الفلل إلى الآخرة". قال له: "كيف؟" قال: "تحولها إلى مدارس".. وحوّلت إلى مدارس.
الغريب أن المدارس هنا ليس فيها أي برنامج أو منهج مختلف، لا يُدرَّس فيها الدين مثلاً. يُدرَّس فيها البرنامج التركي، وباللغة الإنجليزية أو اللغة التركية. هنا القصة تتعلق بالمدرّسين الأكفاء، تتعلق بالنشاطات اللاصفية، تتعلق بالنية والإخلاص. حتى إني رأيت عندهم الشيخ سعيد رمضان البوطي قابلتُه والتقينا مع نخبة من طلاب الشيخ "فتح الله" من أوروبا وأمريكا، هم يلتقون ما بين الآونة والأخرى، وأجبنا على بعض أسئلتهم. فيحدثني الشيخ البوطي عن قصة سمعَها من أحد المدراء. (...) والشيخ حدثنا عن هذه القصة وهو يجهش بالبكاء، سبحان الله.
هناك تجربة فريدة لا توجد في العالم العربي، ربما ولا حتى -أظن- في أكثير بلاد العالم..
مجموعة من الشركات المؤسسات؛ مؤسسات إعلامية، اقتصادية، تعليمية، تربوية، مساجد، مناشط، مدارس، آلاف المدارس داخل تركيا وخارجها.
مقدم البرنامج: فضيلة الدكتور عفواً، التجربة إذاً كأنك تقول، إنها انتقلت من شخصنة، لم تكن شخصية إلى أن تكون روح مؤسسية وطَنية تَسهم في بناء تركيا كبلد، كوطن..
الشيخ سلمان: تماماً.. يعني ملايين الطلبة.. وهذا الحقيقة في جو كجو تركيا شيء عجيب؛ لأن أحياناً هناك توتّر علماني، بل هناك أحياناً تطرّف.. والشيخ نفسه تعرّض للملاحقة أكثر من سبع سنوات، وتعرّض للمحاكمة، وتعرض للسجن، وتعرض لحالات تشهير، ومحاولة نشر بعض مقاطع الفيديو التي يحاولون بها أن يدينوه. (...) ولكن مع ذلك النموذج الحقيقي أنه هو بحدّ ذاته جدير بالتأمل والدراسة والإطلاع، الكلمات التي يقولها النورْسي، يقولها فتح الله، وهو أيضاً أديب وشاعر ومثقف وفيلسوف ومفكر وواعظ.. كان يحضر درسه مائة ألف، ومع ذلك أوقف هذه الدروس بكل هدوء، واستمر في مثل هذا العمل الهادئ العظيم المؤثر.. وهنا الجانب الحكومي وجماعة رجب الطيب أردوغان وغيرهم حقيقة استفادوا من هذا الوجود استفادة كبيرة جداً، من دون أن يكون بينهم تنسيق أو تحالف أو تتلمذ مباشر، لكن تركيا التقت على مثل هذه المعاني ما بين السياسي والاجتماعي.
مقدم البرنامج: وهذا العنوان جميل جدّاً لبلد يريد أن ينهض وينمو، أنه عندما تنساق كل الأعمال من أجل مصلحة واحدة -أياً كان اتجاه هذا العمل- سواء كان أيديولوجياً أو غير أيديولوجي، المهم أن ينساق تحت عنوان "نحو وطنٍ أفضل". وجود اللغة العربية في تركيا الآن لا يوجد إسهام واضح جدّاً من قبل الدول العربية في غرس ثقافة عربية مثلى حضارية عموماً الأتراك يمدون أيديهم لتلقف مثل هذه المبادرات.
الشيخ سلمان: وأنا أولاً أريد أن أقول أنه حتى إعلامياً في تركيا، هناك عشرات القنوات يعني الهادفة، وبعضها محافظ وبعضها متخصص في القضايا الإسلامية، فما نعرفه نحن ليس بالضرورة هو أفضل ما لدى الأتراك هذه نقطة ينبغي أن تكون واضحة في الاعتبار.
مقدم البرنامج: بل أحياناً هو أسوأ.
الشيخ سلمان: نعم وقد يكون أحياناً هو كذلك حتى في نفس الاختصاص، أما إذا أردنا أن ننظر إلى ما يحدث في تركيا، فكما أشرتُ، هناك أشياء إيجابية ضخمة جدّاً تحدث، وتحدث بهدوء، بعيداً عن الضجيج والأضواء والصخب. ومن الجميل أنه كان أحد تلاميذ الشيخ فتح الله يحدثني ويتكلم عن قول الله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾(النُّور:36)، ويقول باللهجة التركية لكني فهمت عليه، يقول: "بيوت" هنا نكرة، إذاً هنا القصة هنا ليست قصة إعلان أو إشهار أو ادّعاء ومبالغات، بقدر ما هو العمل الهادئ، ولو كان بعيداً عن الأضواء، هو يقتبس هذا المعنى من قول لفظة "بيوت" هنا نكرة، وليست معرفة.
الشيخ نفسه له كلمة جميلة يقول: "اعملْ الخيرَ ثم انْسَه، ثم انسَ أنَك نسيتَه". هذا أيضاً معنى جميل جدّاً، "انسَه، ثم انْسَ إنّك نسيتَه"..
الأتراك لديهم تعلق كبير جداً بالقرآن الكريم، وكثير منهم يحفظونه. وقد قرأ عندنا إمام جامع الفاتح في إسطنبول في أكثر من مناسبة قراءة يعني أكثر من رائعة ومؤثرة وباكية؛ ولذلك يعني علاقتهم باللغة العربية علاقة وطيدة، وأعتقد أنه المرحلة القادمة هي مرحلة تعليم اللغة العربية في تركيا، وأظن أن هذا هو ميدان استثماري ضخم جدّاً للمخلِصين الذين يريدون أن يستفيدوا مادّياً ودنيوياً، وأيضاً يحققوا قدراً من الجانب الرسالي لهذا البلد العريق الذي ظل وفيّاً للعروبة والإسلام.
مقدم البرنامج: أشكرك فضيلة الدكتور سلمان العودة، أشكر لكم أيها الإخوة والأخوات إنصاتكم لهذاه الحلقة التي كان عنوانها: "تركيا: تجربة جديدة"، إلى أن نلتقيكم حينها دمتم بخير وسلام الله عليكم.
المصدر: قناة MBC الفضائية، برنامج "الحياة كلمة"، 11 يوليو 2009.
الشيخ سلمان: مرحباً بك وبالأخوات والإخوة جميعاً.
مقدم البرنامج: حلْقتنا اليوم عن "تركيا"، وهي امتداد لزيارة تركيا التي قام بها فضيلة الدكتور، وكان فضيلة الدكتور هناك، لعدة مؤتمرات أقيمت هناك. فضيلة الدكتور! تركيا تجربة ثرية، قبل أن أتحدث عن التجربة الحالية تجربة الواقع المعاصر، لا بد أن نتحدث عن عبق التاريخ: العرب والترك صارت بينهم آصرة كبيرة جدّاً كان عنوان هذه الآصرة هو "العلاقة الإسلامية والعمق الروحاني الإيماني". (...) نتحدث عن تركيا التاريخ.
الشيخ سلمان: طبعاً التاريخ، تاريخ طويل، بالمناسبة نحن أكثر من مرة يمكن جِبْنا حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- "اتركوا الترك ما تركوكم"، وهذا يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فأحد الشباب أرسل لي الأسبوع الماضي رسالة يقول: "الترك ما تركونا، وقَفوا معنا في أزماتنا ومحننا وقضايانا، وكما في موضوع غزة وقفتهم التاريخية، وموضوع الصين الآن، وقضايا العروبة والإسلام.. إلخ".
وهذا معنى لطيف، لأن "اتركوا الترك ما تركوكم" هذا يوم كان الترك خصوماً وأعداءً، أما حينما أصبح الترك جزءاً من النسيج الإسلامي، وحملوا الراية، وظلت دولة الخلافة العثمانية لأكثر من سبعة قرون تحمل الراية والمشعل، ويوم وصلت إلى درجة ما يسمى بـ "الرجل المريض"، وتنادت وتداعت عليها أمم الأرض من أجل إسقاطها واقتسام الغنيمة (...).
تركيا كما اشتهرت بالخلافة وحفظ السياسة الإسلامية، اشتهرت أيضاً بحفظ العلم الإسلامي وبالخط، المكتبات في تركيا تحفل بالمخطوطات الإسلامية النادرة بما في ذلك مخطوطات القرآن الكريم. (...) تاريخ الإسلام لا يمكن أن يُفصل عن تاريخ تركيا، لما تأتي الأسبوع الماضي والذي قبله كنا في إسطنبول هذا البلد العريق، هذا البلد كان في أصله بلداً رومانيّاً، وكان من الممكن أن لا ترى فيه مئذنة وأن لا ترى فيه إلا الكنائس والمعابد، بينما رأينا فيه المساجد على أحدث طراز، وما كان علي أحمد باكثير يتكلم:
وكم بالآستانة من معان أثارت في حناياي الشجونا
معانٍ ليس تعدلها معان تفجّر في الفؤاد هدًى مبينا
تزيد الكافرين أسًى وغيظاً إذا نظروا، وتُرضي المؤمنينا
ومَن ينظر مآذنها يجدها رِماحاً في صدور الكافرينا
فعلاً، صِيغة بناء المآذن توحي بهذا المعنى الذي أشار إليه، كأنها رماح في علوّها وارتفاعها ودقّتها. فهنا تجد كيف أن السلطان محمد الفاتح، ومراد، وغيرهم من السلاطين استطاعوا أن يقيموا هذه الدولة، ويواجهوا التحدّيات الضخمة، ويمتدّوا في مشارق الأرض ومغاربها، ويطرقوا أبواب أوربا وأبواب فيينا، ويضمّوا كثيراً من الدول؛ ألبانيا والبوسنة ومناطق البلقان التي تحولت إلى مناطق إسلامية عريقة على أيدي هؤلاء الأتراك. (...)
مقدم البرنامج: البنية الأساسية في تركيا تتطور بشكل مذهل ولمسها المواطن التركي.
الشيخ سلمان: وهذا أيضاً ملاحظ.. الإنسان الذي جاء إلى تركيا قبل ستّ أو عشر سنوات وجاء إليها الآن، يلاحظ الفرق الكبير، حتى في جوانب الخدمات، في جوانب البنية الأساسية، بل حتى -سبحان الله- في الجوانب النفسية والمزاجية. لأن هذه يبدو أنها مترابطة، وأظن هذا جزء من النجاح، القدرة على التأثير حتى على نفسية المواطن التركي، كيف كان يتعامل مثلاً سائق التاكسي أو الموظف أو الشخص العادي مع العربي من قبل، وكيف يتعامل معه الآن؟ أعتقد أن هناك اختلافاً لاحظناه وتحسناً كبيراً في هذا الجانب، يوحي فعلاً بأننا بصدد تجربة رائدة إذا كتب لها أن تستمر فهذا خير كثير.
مقدم البرنامج: العمالة التطوعية، المستشفيات، المدارس.. هذه أيضًا يبدو لي ارتفعت احصائياتها كثيراً جدّاً بالذات بعد عام 2002.
الشيخ سلمان: يمكن أنا أقتبس هذا السؤال لأتحدث عن تجربة رأيتُها هناك، تجربة "فتح الله كولان" كما يسمّونه، وهو شيخ عالِم فقيه، يمكن في السبعين من عمره، يعيش الآن في أمريكا، لكنه يعيش في تركيا في الوقت ذاته، روحه موجودة في تركيا، أتباعه الكثيرون، مدارسه التي تُعَدّ بالآلاف داخل تركيا والآلاف خارج تركيا في الاتحاد السوفيتي والبلقان ومصر والمغرب وإفريقيا وفي كل مكان. مئات الكليات التي تُعتبر في حقيقة الأمر تتبع ما يسمى بنظام "الخدمة". حتى اسم، ليس لهم اسم، ليس هناك تنظيم لهذا الوجود يُلمَس، لكن هناك أتباع وتلاميذ اقتبسوا هذه الروح العالية عن "فتح الله كولن".. كان عنده أيضاً عشرات القنوات الفضائية، عشرات الصحف، حتى -جريدة واحدة- جريدة أظن اسمها "زَمان"، أكبر جريدة تركية، يُوزّع منها يوميّاً مليون نسخة. مجلة شهرية يُوزّع منها ثمانمائة ألف نسخة. وعندهم أكثر من عشرين مجلة. طبعاً هناك مجلة بالعربي أيضاً اسمها "حراء"، تُطبع من مصر. عندهم عشرات المستشفيات. مدارس، حدِّث ولا حرج. مساجد، مناشط... يعني شيء مُذهل. كلّه يعود الفضل فيه بعد الله إلى هذه الروح التي بثّها هذا الرجل: "فتح الله كولَن..
قرأتُ عدداً من كتب له، كتب حتى بالعربية، وكتب مترجمة.. له أكثر من أربعين كتاباً. وعنده كتاب في السيرة النبوية. رأيت تلاميذه، سمعتُهم يتحدثون عنه بشكل غريب. سمعتُ مقطعاً صوتيّاً له وهو يتكلّم عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ» طبعاً باللغة التركية. لم أفهم، لكنني عرفتُ روحه.. يتكلّم والدموع تنحدر من عينيه، أنه "ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار".. يقول، هذا ليس خبراً فقط، وإنما هو خبر وأمر، يطلب من المسلمين أن يُبلّغوا هذا الدين، ويصيح يقول: "وجدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم غريباً في كثير من الديار الذي جُلْتُها، كنت أشعر وكأنني أبتلع المسامير". يقول، "لأنني وجدت غربة النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد أوربا وأمريكا.. "كلّ من له ليل ونهار" -لاحظ المعنى اللطيف يقول-: "كل من له ليل ونهار، ينبغي أن يشتغل في تبليغ الدين ما بلغ الليل والنهار". يعني له ليل يخلو فيه بربّه، وله نهار أيضاً يعاني فيه سبحاً طويلاً ويبني ويؤسس ويعمل ويحتكّ بالناس، ينبغي أن يكون له مشاركة في هذا المعنى. يَدعو الناس إلى وصل من قطع، يقول: "الصحابة رضي الله عنهم كانوا حفاة جياعاً، ومع ذلك ركبوا الخيول المطهَّمة، وحملوا الدعوة إلى كل مكان. وهذا الأمر قد توقف وانقطع، وهذه الروح قد تجمّدتْ. يجب علينا أن نجدد هذه الروح، ونجدد ما انقطع"... يتكلم والمنديل في يده، بكل عفوية... تجد أنه هناك روح عالية..
هذا الرجل صاحب سلوك إيماني، وتصوف صافٍ، بعيداً عن الغلو والانحراف. صاحب فقه واهتمام بالفقه، خاصة كتب الفقه الحنفي. صاحب عناية بالحديث، حتى إنه يقرأ كتب السنة التسعة، مثلاً مسند أحمد، والصحاح الستّة، والدارمي، ويقرأ شروحها أيضاً مثل فتح الباري، والعيني، والكرماني، وعارضة الأحوذي، وتحفة الأحوذي. وكنـز العمال في شهر رمضان قرأه، كل هذا مع طلابه يُدرّسهم. التفسير، تفسير ابن كثير، وغيره من التفاسير. بل إنه همّ أن يبدأ بقراءة فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكنه توقّف بعد ذلك بسبب المرض والانشغال والسفر..
فوجدنا تلاميذه، ووجدنا بصماته، ووجدنا قدرته على التأثير؛ ولذلك هو أبو "الإسلام الاجتماعي" في تركيا، أبو "الإسلام الوعظي". هو طبعاً يمكن أن استفادوا مما يسمى بالمدرسة النورْسيّة سعيد النورْسي، ولكنهم تميزوا عنها. الحرص هنا على الروح الإسلامية الواعية القوية، وفي الوقت ذاته الحرص على العلم المدني الحديث. عندهم هذه المدارس التي يتخرّج منها أنبغ الطلاب، وعلى سبيل المثال: رأينا مدرسة واحدة، هي عبارة عن تقريباً أكثر من عشر فِلَل أو اثنا عشر فلّة فاخرة جداً، وإلى جوارها مسجد ضخم يخصّهم. يحدثوننا عن قصة هذه الفلل أنه كانت لرجل متأثر بالشيخ، وكان يريد أن يسكنها لتكون قريبة من المسجد، فجاءه الشيخ وقال له: "ألا أقترح عليك اقتراحاً؟" قال له: "بلى". قال: "أن ترسل هذه الفلل إلى الآخرة". قال له: "كيف؟" قال: "تحولها إلى مدارس".. وحوّلت إلى مدارس.
الغريب أن المدارس هنا ليس فيها أي برنامج أو منهج مختلف، لا يُدرَّس فيها الدين مثلاً. يُدرَّس فيها البرنامج التركي، وباللغة الإنجليزية أو اللغة التركية. هنا القصة تتعلق بالمدرّسين الأكفاء، تتعلق بالنشاطات اللاصفية، تتعلق بالنية والإخلاص. حتى إني رأيت عندهم الشيخ سعيد رمضان البوطي قابلتُه والتقينا مع نخبة من طلاب الشيخ "فتح الله" من أوروبا وأمريكا، هم يلتقون ما بين الآونة والأخرى، وأجبنا على بعض أسئلتهم. فيحدثني الشيخ البوطي عن قصة سمعَها من أحد المدراء. (...) والشيخ حدثنا عن هذه القصة وهو يجهش بالبكاء، سبحان الله.
هناك تجربة فريدة لا توجد في العالم العربي، ربما ولا حتى -أظن- في أكثير بلاد العالم..
مجموعة من الشركات المؤسسات؛ مؤسسات إعلامية، اقتصادية، تعليمية، تربوية، مساجد، مناشط، مدارس، آلاف المدارس داخل تركيا وخارجها.
مقدم البرنامج: فضيلة الدكتور عفواً، التجربة إذاً كأنك تقول، إنها انتقلت من شخصنة، لم تكن شخصية إلى أن تكون روح مؤسسية وطَنية تَسهم في بناء تركيا كبلد، كوطن..
الشيخ سلمان: تماماً.. يعني ملايين الطلبة.. وهذا الحقيقة في جو كجو تركيا شيء عجيب؛ لأن أحياناً هناك توتّر علماني، بل هناك أحياناً تطرّف.. والشيخ نفسه تعرّض للملاحقة أكثر من سبع سنوات، وتعرّض للمحاكمة، وتعرض للسجن، وتعرض لحالات تشهير، ومحاولة نشر بعض مقاطع الفيديو التي يحاولون بها أن يدينوه. (...) ولكن مع ذلك النموذج الحقيقي أنه هو بحدّ ذاته جدير بالتأمل والدراسة والإطلاع، الكلمات التي يقولها النورْسي، يقولها فتح الله، وهو أيضاً أديب وشاعر ومثقف وفيلسوف ومفكر وواعظ.. كان يحضر درسه مائة ألف، ومع ذلك أوقف هذه الدروس بكل هدوء، واستمر في مثل هذا العمل الهادئ العظيم المؤثر.. وهنا الجانب الحكومي وجماعة رجب الطيب أردوغان وغيرهم حقيقة استفادوا من هذا الوجود استفادة كبيرة جداً، من دون أن يكون بينهم تنسيق أو تحالف أو تتلمذ مباشر، لكن تركيا التقت على مثل هذه المعاني ما بين السياسي والاجتماعي.
مقدم البرنامج: وهذا العنوان جميل جدّاً لبلد يريد أن ينهض وينمو، أنه عندما تنساق كل الأعمال من أجل مصلحة واحدة -أياً كان اتجاه هذا العمل- سواء كان أيديولوجياً أو غير أيديولوجي، المهم أن ينساق تحت عنوان "نحو وطنٍ أفضل". وجود اللغة العربية في تركيا الآن لا يوجد إسهام واضح جدّاً من قبل الدول العربية في غرس ثقافة عربية مثلى حضارية عموماً الأتراك يمدون أيديهم لتلقف مثل هذه المبادرات.
الشيخ سلمان: وأنا أولاً أريد أن أقول أنه حتى إعلامياً في تركيا، هناك عشرات القنوات يعني الهادفة، وبعضها محافظ وبعضها متخصص في القضايا الإسلامية، فما نعرفه نحن ليس بالضرورة هو أفضل ما لدى الأتراك هذه نقطة ينبغي أن تكون واضحة في الاعتبار.
مقدم البرنامج: بل أحياناً هو أسوأ.
الشيخ سلمان: نعم وقد يكون أحياناً هو كذلك حتى في نفس الاختصاص، أما إذا أردنا أن ننظر إلى ما يحدث في تركيا، فكما أشرتُ، هناك أشياء إيجابية ضخمة جدّاً تحدث، وتحدث بهدوء، بعيداً عن الضجيج والأضواء والصخب. ومن الجميل أنه كان أحد تلاميذ الشيخ فتح الله يحدثني ويتكلم عن قول الله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾(النُّور:36)، ويقول باللهجة التركية لكني فهمت عليه، يقول: "بيوت" هنا نكرة، إذاً هنا القصة هنا ليست قصة إعلان أو إشهار أو ادّعاء ومبالغات، بقدر ما هو العمل الهادئ، ولو كان بعيداً عن الأضواء، هو يقتبس هذا المعنى من قول لفظة "بيوت" هنا نكرة، وليست معرفة.
الشيخ نفسه له كلمة جميلة يقول: "اعملْ الخيرَ ثم انْسَه، ثم انسَ أنَك نسيتَه". هذا أيضاً معنى جميل جدّاً، "انسَه، ثم انْسَ إنّك نسيتَه"..
الأتراك لديهم تعلق كبير جداً بالقرآن الكريم، وكثير منهم يحفظونه. وقد قرأ عندنا إمام جامع الفاتح في إسطنبول في أكثر من مناسبة قراءة يعني أكثر من رائعة ومؤثرة وباكية؛ ولذلك يعني علاقتهم باللغة العربية علاقة وطيدة، وأعتقد أنه المرحلة القادمة هي مرحلة تعليم اللغة العربية في تركيا، وأظن أن هذا هو ميدان استثماري ضخم جدّاً للمخلِصين الذين يريدون أن يستفيدوا مادّياً ودنيوياً، وأيضاً يحققوا قدراً من الجانب الرسالي لهذا البلد العريق الذي ظل وفيّاً للعروبة والإسلام.
مقدم البرنامج: أشكرك فضيلة الدكتور سلمان العودة، أشكر لكم أيها الإخوة والأخوات إنصاتكم لهذاه الحلقة التي كان عنوانها: "تركيا: تجربة جديدة"، إلى أن نلتقيكم حينها دمتم بخير وسلام الله عليكم.
المصدر: قناة MBC الفضائية، برنامج "الحياة كلمة"، 11 يوليو 2009.