حكيم أوغلو إسماعيل
أستاذي محمد فتح الله كولن
كان سنة 1975 لما توجهت بالسيارة مع مجموعة من التجار إلى بلدة "بورنوفا" التابعة لمدينة "إزمير" غرب تركيا، بغية الاستماع للدرس الذي سيلقيه الأستاذ محمد فتح الله كولن. كان الجامع مكتظاً بالشباب.. الكل يبكي إلا أنا.. كنت أتابع المشهد وأستمع الدرس في حيرة وذهول.
ذهبوا بنا بعد انتهاء الدرس إلى أحد البيوت برفقة الأستاذ كولن، وهناك تناولنا الطعام، واحتسينا بعده الشاي. ثم وجّهنا سؤالاً للأستاذ: "يا أستاذ، نريد أن نؤسس شركة لعمل كذا وكذا، فماذا تقترحون علينا؟" فكر الأستاذ ملياً، ثم رفع رأسه وقال: "ليس لي أن أقترح لكم سوى ما أحاول القيام به، ولن أقول لكم كلمة سواها، وهو السعي لإخراج جيل كامل عن طريق تربية الطلاب وتنشئتهم..."
مر على هذه الواقعة ما يقرب من أربعين سنة.
وحين أتأمل اليوم فيما إذا كان حصل أي تغيير في اهتمامات أستاذي وأولوياته أجد أن الدهر لم يغيّر منه شيئاً، إذ إن اهتماماته وأولوياته منصبة اليوم أيضاً على تنشئة الطلاب وتربيتهم، فهو اليوم يسعى من وراء غايته المنشودة كما هو عليه أمس. ذلك أنه يعتبر تربيةَ الأجيال وتنشة الطلبة اتباعاً للسنن الكونية والاجتماعية التي وضعها الله سبحانه وتعالى لترقي الأفراد والمجتمعات والحضارات وتدنيها، ويراها بالتالي عبادة له عزّ وجلّ.
كما يعلم الجميع، لقد حاولت طوال عمري الإسهام في النشاطات الدينية، كما لي أخذ وعطاء مع مختلف الجماعات العاملة في تركيا وخارجها، وألّفت العديد من الكتب، وقضيت عمري في دور النشر والإعلام. وما زلت أكتب وألقي الدروس في مختلف المجالات.. وفي هذا الإطار قد التقيت شرائح مختلفة من أفراد المجتمع؛ فمنهم من كانوا على صواب، ومنهم من كانوا على خطأ.
أعود اليوم وأنظر إلى الوراء، فيخطر على بالي فترات الحياة الشخصية والدعوية للأستاذ كولن، وأمعن النظر في كتبه وأستمع لدروسه فأقول "وجود هذا النوع من الأستاذ كان ضرورياً"، لأنّه إذا لم يكن هناك من يعيش الإسلام على صورته الأصلية المبينة في الكتاب والسنة ويدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة فإنّ هذا الدين سيصبح بيد أناس يسيئون إليه بسوء تصرفاتهم، وستخبو جذوة روح الإسلام.
ربما لا يروق لبعض الناس أن يتعاملوا بالإنصاف والتسامح مع سلطان التسامح الأستاذ كولن الذي ظلّ يؤكد في كل فرصة ومناسبة حرصه على الوطن والملة والدولة، ويمسك بيد من سقط، ويمسح الدموع، ويمد يد العون إلى الكل، بغضّ النظر عن الفروقات الاعتقادية والأيديولوجية بينهم.
لقد شاهدت أكثر من مرّة أن الكثيرين من منتقدي الأستاذ كولن جاؤوا إليه بعد مدة من الزمن معلنين عن تقديرهم له بقولهم: "الآن فهمناه". هناك من حاول لسنوات طويلة أن يحطّم نفسية الأستاذ وينال من سمعته، غير أنه أبلى بلاء حسناً في كل هذه الظروف الصعبة وظلّت مواقفه دروساً لنا.
مثلما تنزل الصواعق على المباني الشاهقة، قد تنزل مصائب على كبار الناس، ولا غرو في ذلك. فلقد رأى الأستاذ وعاش من المحن ما ينوء من حملها كاهل الآلاف من المسلمين، ولا يزال يعاني اليوم من المحن المماثلة.
قبل سنوات، وقبل أن يصيبني المرض، جاء إخوةٌ لزيارتي، وقالوا "نحن مسافرون إلى أمريكا، فانضمَّ إلينا لنذهب معاً." فذهبنا ورأيت هناك البيت الصغير الذي احتضن ذلك الرجل الذي لا تسعه الدنيا! بيت مكوّن من طابقين في غابة كبيرة، لم يكنْ يُلقي بالاً للغابة ولا للشجر ولا للزهر فيها. كما أنه لم يكن يخرج إلى الحديقة.
واقتربت منه وجلست بحذائه، وكنت بين يديه وكأني جالس على شاطئ المحيط. وعندما حان وقت المغادرة، رافقني إلى السيارة التي كانت ستقلنا إلى المطار وودعني!
تذكّروا وأعملوا الفكر في حال البذرة حينما تتشقّق وهي تعاني من صدمة دفنها في التراب. وهي مع كلّ ذلك في عطاء دائم.. تغرس جذورها، وتخرج براعمها، وتفتح أوراقها.. تهزها الرياح.. تحرقها الشمس.. تحطّ الحشرات على أغصانها.. وتحلق الطيور من فوقها.. وهي لا تزال تغدق بكلّ عطائها، وتظلّ بكل ذراتها على أهبة الاستعداد لإعطاء ثمرتها .وعلى الرغم من أن الشجرة لا تتنعّم بالحياة من أجل نفسها هي، بل من أجل غيرها، فإن الإنسان هو من يكسر أغصانها، ويقتلع جذورها.
ينبغي علينا رؤية قدرة الله تعالى ونظامه في حمايةِ الأسماك في قيعان البحار، وحفظِ الجذور في التراب، وبقاء النجوم في الفضاء. لا شكّ أن الله تعالى هو حافظ هذا الدين، ومتمّ نوره إلى يوم القيامة. فالذين نذروا عمرهم لخدمة الإسلام والمسلمين لا يفعلون سوى التزام السير في سبيل الله في إطار "فاستقم كما أمرت." وانطلاقاً من ذلك فإن هذه الخدمة ماضية إلى حيث يشاء الله.
يشهد الله والتاريخ أن أي دعوة صادقة لم يستطع أي عدو في وجه الأرض أن يقطع طريقها نحو الإكمال والإتمام والرضاء! ولكن ماذا عسى الطريق أن تفعل إذا لم يسعَ أصحابها للسير فيه؟!
لما ذكرت أعلاه، فإني أرى أن تلك الأحداث والتطورات الأخيرة التي تشهدها بلادنا ما هي إلا كريح هبّت لتتخلل أغصانَ شجرة الدلب العملاقة ثمّ تولّيَ ذاهبة. ربما تهتزّ أوراقها قليلا ولكنها ستزول حتماً في نهاية المطاف.
المصدر: جريدة زمان التركية، 7 ديسمبر 2013.
أستاذي محمد فتح الله كولن
كان سنة 1975 لما توجهت بالسيارة مع مجموعة من التجار إلى بلدة "بورنوفا" التابعة لمدينة "إزمير" غرب تركيا، بغية الاستماع للدرس الذي سيلقيه الأستاذ محمد فتح الله كولن. كان الجامع مكتظاً بالشباب.. الكل يبكي إلا أنا.. كنت أتابع المشهد وأستمع الدرس في حيرة وذهول.
ذهبوا بنا بعد انتهاء الدرس إلى أحد البيوت برفقة الأستاذ كولن، وهناك تناولنا الطعام، واحتسينا بعده الشاي. ثم وجّهنا سؤالاً للأستاذ: "يا أستاذ، نريد أن نؤسس شركة لعمل كذا وكذا، فماذا تقترحون علينا؟" فكر الأستاذ ملياً، ثم رفع رأسه وقال: "ليس لي أن أقترح لكم سوى ما أحاول القيام به، ولن أقول لكم كلمة سواها، وهو السعي لإخراج جيل كامل عن طريق تربية الطلاب وتنشئتهم..."
مر على هذه الواقعة ما يقرب من أربعين سنة.
وحين أتأمل اليوم فيما إذا كان حصل أي تغيير في اهتمامات أستاذي وأولوياته أجد أن الدهر لم يغيّر منه شيئاً، إذ إن اهتماماته وأولوياته منصبة اليوم أيضاً على تنشئة الطلاب وتربيتهم، فهو اليوم يسعى من وراء غايته المنشودة كما هو عليه أمس. ذلك أنه يعتبر تربيةَ الأجيال وتنشة الطلبة اتباعاً للسنن الكونية والاجتماعية التي وضعها الله سبحانه وتعالى لترقي الأفراد والمجتمعات والحضارات وتدنيها، ويراها بالتالي عبادة له عزّ وجلّ.
كما يعلم الجميع، لقد حاولت طوال عمري الإسهام في النشاطات الدينية، كما لي أخذ وعطاء مع مختلف الجماعات العاملة في تركيا وخارجها، وألّفت العديد من الكتب، وقضيت عمري في دور النشر والإعلام. وما زلت أكتب وألقي الدروس في مختلف المجالات.. وفي هذا الإطار قد التقيت شرائح مختلفة من أفراد المجتمع؛ فمنهم من كانوا على صواب، ومنهم من كانوا على خطأ.
أعود اليوم وأنظر إلى الوراء، فيخطر على بالي فترات الحياة الشخصية والدعوية للأستاذ كولن، وأمعن النظر في كتبه وأستمع لدروسه فأقول "وجود هذا النوع من الأستاذ كان ضرورياً"، لأنّه إذا لم يكن هناك من يعيش الإسلام على صورته الأصلية المبينة في الكتاب والسنة ويدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة فإنّ هذا الدين سيصبح بيد أناس يسيئون إليه بسوء تصرفاتهم، وستخبو جذوة روح الإسلام.
ربما لا يروق لبعض الناس أن يتعاملوا بالإنصاف والتسامح مع سلطان التسامح الأستاذ كولن الذي ظلّ يؤكد في كل فرصة ومناسبة حرصه على الوطن والملة والدولة، ويمسك بيد من سقط، ويمسح الدموع، ويمد يد العون إلى الكل، بغضّ النظر عن الفروقات الاعتقادية والأيديولوجية بينهم.
لقد شاهدت أكثر من مرّة أن الكثيرين من منتقدي الأستاذ كولن جاؤوا إليه بعد مدة من الزمن معلنين عن تقديرهم له بقولهم: "الآن فهمناه". هناك من حاول لسنوات طويلة أن يحطّم نفسية الأستاذ وينال من سمعته، غير أنه أبلى بلاء حسناً في كل هذه الظروف الصعبة وظلّت مواقفه دروساً لنا.
مثلما تنزل الصواعق على المباني الشاهقة، قد تنزل مصائب على كبار الناس، ولا غرو في ذلك. فلقد رأى الأستاذ وعاش من المحن ما ينوء من حملها كاهل الآلاف من المسلمين، ولا يزال يعاني اليوم من المحن المماثلة.
قبل سنوات، وقبل أن يصيبني المرض، جاء إخوةٌ لزيارتي، وقالوا "نحن مسافرون إلى أمريكا، فانضمَّ إلينا لنذهب معاً." فذهبنا ورأيت هناك البيت الصغير الذي احتضن ذلك الرجل الذي لا تسعه الدنيا! بيت مكوّن من طابقين في غابة كبيرة، لم يكنْ يُلقي بالاً للغابة ولا للشجر ولا للزهر فيها. كما أنه لم يكن يخرج إلى الحديقة.
واقتربت منه وجلست بحذائه، وكنت بين يديه وكأني جالس على شاطئ المحيط. وعندما حان وقت المغادرة، رافقني إلى السيارة التي كانت ستقلنا إلى المطار وودعني!
تذكّروا وأعملوا الفكر في حال البذرة حينما تتشقّق وهي تعاني من صدمة دفنها في التراب. وهي مع كلّ ذلك في عطاء دائم.. تغرس جذورها، وتخرج براعمها، وتفتح أوراقها.. تهزها الرياح.. تحرقها الشمس.. تحطّ الحشرات على أغصانها.. وتحلق الطيور من فوقها.. وهي لا تزال تغدق بكلّ عطائها، وتظلّ بكل ذراتها على أهبة الاستعداد لإعطاء ثمرتها .وعلى الرغم من أن الشجرة لا تتنعّم بالحياة من أجل نفسها هي، بل من أجل غيرها، فإن الإنسان هو من يكسر أغصانها، ويقتلع جذورها.
ينبغي علينا رؤية قدرة الله تعالى ونظامه في حمايةِ الأسماك في قيعان البحار، وحفظِ الجذور في التراب، وبقاء النجوم في الفضاء. لا شكّ أن الله تعالى هو حافظ هذا الدين، ومتمّ نوره إلى يوم القيامة. فالذين نذروا عمرهم لخدمة الإسلام والمسلمين لا يفعلون سوى التزام السير في سبيل الله في إطار "فاستقم كما أمرت." وانطلاقاً من ذلك فإن هذه الخدمة ماضية إلى حيث يشاء الله.
يشهد الله والتاريخ أن أي دعوة صادقة لم يستطع أي عدو في وجه الأرض أن يقطع طريقها نحو الإكمال والإتمام والرضاء! ولكن ماذا عسى الطريق أن تفعل إذا لم يسعَ أصحابها للسير فيه؟!
لما ذكرت أعلاه، فإني أرى أن تلك الأحداث والتطورات الأخيرة التي تشهدها بلادنا ما هي إلا كريح هبّت لتتخلل أغصانَ شجرة الدلب العملاقة ثمّ تولّيَ ذاهبة. ربما تهتزّ أوراقها قليلا ولكنها ستزول حتماً في نهاية المطاف.
المصدر: جريدة زمان التركية، 7 ديسمبر 2013.